تحدّث الإعلام الغربي، بشكل مكثّف، عن عزم البحرية الروسية إجراء مناوراتٍ مشتركةٍ مع نظيرتها التركية شرقي البحر الأبيض المتوسط، في النصف الثاني من شهر سبتمبر/ أيلول الجاري، استناداً إلى إعلان تركيا عن قيام المناورات الروسية. وقد سعى الغربيون في ذلك إلى الإشارة إلى عزم تركيا، وهي العضو في حلف شمال الأطلسي، للتحالف مع “أعداء” هذا الحلف من الروس، لإظهار عضلات المواجهة مع من تعتبرهم قوى معاديةً لمصالحها في هذه المنطقة الحساسة والمقابلة لشواطئها، وفي مقدمتهم فرنسا. وقد سبق للبحرية التركية أن أجرت مناورات محدودة مع إحدى قطع الأسطول السادس الأميركي منذ أسابيع. كما استعرضت فرنسا، في المقابل، عضلاتها البحرية من خلال مناورات مشتركة مع حلفائها اليونانيين والقبرصيين والمصريين والإماراتيين (…). وقد نفت تركيا رسمياً، عبر وكالة الأناضول، مشاركتها روسيا في مناوراتٍ بحرية. وقد تأكد فعلاً بعد ذلك أن الروس يستعدّون لهذه المناورات من طرف واحد، بما أن وطأت أقدامهم المتوسط عبر وجودهم المهيمن عسكريا وسياسيا واقتصاديا في سورية.
الروس إذاً يُجرون تمريناتٍ بحريةً في شرق المتوسط، مستعرضين قوتهم البحرية المحدودة، والتي تعاني من نقص كبير في المعدّات الحديثة، كما تجمع عليه كل المطبوعات المتخصصة بشؤون السلاح والتسلح. على الرغم من هذا، فاستعراض القوة الروسي طبيعي أن يتم في مرحلةٍ صارت فيها موسكو “قوة متوسطية” حقيقية، عبر قواعد ثابتة في سورية، وتسهيلات لوجستية كما في قبرص ومصر. وتحمل هذه المناورات رغبةً روسيةً في المشاركة في تصعيد التوتر في هذه المنطقة المختزنة بالغاز الطبيعي، والذي يعتبر استخراجه واستثماره من أهم أسباب التوتر القائم بين تركيا واليونان منذ أشهر. مساهمة موسكو في تصعيد التوتر تؤخّر برأيها عملية وصول هذا الغاز المحتملة إلى الأسواق، وتُبقي على الهيمنة الروسية على الأسواق الأوروبية على الأقل، والتي تعتبر روسيا مصدراً أساسياً لها، حيث تستورد أوروبا أكثر من نصف احتياجاتها من الغاز من روسيا.
في عام 2016، وبعد أزمة القرم، ووضوح التبعية الأوروبية المُعيقة للغاز الروسي، قدّم الاتحاد الأوروبي حزمة تشريعية أولى عن “الأمن في مجال الطاقة”، مفترضا منها تعزيز استقلالية أوروبا في مجال الطاقة، كما تسعى إلى تعزيز التعاون البيني بين دول الاتحاد في هذا الاتجاه. وتحتوي هذه الحزمة على إجراءات مقترحة، أهمها تعزيز الاعتماد على الغاز المسيل الذي يسهل نقله، على الرغم من كلفته العالية، والذي يُعتبر أقل تلويثاً من الغاز الطبيعي. كما نصت الحزمة على وجوب أن تعمد الدولة العضو إلى إشراك مؤسسات الاتحاد في أية مفاوضات ثنائية لاستيراد الطاقة، كما يفرض تصويتاً من البرلمان الأوروبي على الاتفاقيات المرتبطة. وهذا يفسح المجال أمام مؤسسات الاتحاد أن تلعب ورقة ضغط نسبية في المفاوضات، خصوصاً مع روسيا، المصدر الرئيسي لدول الاتحاد حتى إشعار آخر، يبدو أنه متأخر.
توصل روسيا اليوم غازها عبر شبكة أنابيب إلى أوروبا وتركيا، فهناك الأنبوب الشمالي القادم مباشرة إلى ألمانيا، كما أنبوبان يعبران روسيا البيضاء وبولندا لتغذية أوروبا الوسطى وأوروبا الشرقية. ويضاف إلى ما سبق أربعة أنابيب تعبر أوكرانيا، إضافة إلى أنبوب يصل إلى تركيا، وآخر يزوّد فنلندا مباشرة، وأنبوب أخير لتزويد دول البلطيق الثلاث بشكل مباشر أيضاً. وتسعى شركة غازبروم، المهيمنة على قطاع الطاقة في روسيا، إلى توسيع إمكانات التصدير، عبر مد أنبوب جديد تحت بحر البلطيق، يتحاشى المرور عبر أوكرانيا التي تشهد علاقتها مع روسيا توترا متراكما. وتسعى روسيا بذلك إلى تخفيف الاعتماد، إلى أقل درجة، على العبور في الأراضي الأوكرانية.
وكان الأنبوب المُنتظر روسياً، والمُرحّب به ألمانياً، العابر لبحر البلطيق، سيدخل حيز التشغيل في شهر يناير/كانون الثاني الماضي، إلا أن العقوبات التي فرضت على روسيا، بسبب ضمّها غير الشرعي لشبه جزيرة القرم الأوكرانية سنة 2014، أحدثت تأخيراً مهماً في إنجازه المعتمد على تقنيات وشركات غربية. وعلى الرغم من هذا التأخير، فإن روسيا مطمئنة إلى أمرين، يتعلق الأول باستمرار التبعية الأوروبية لها في مجال مصادر الطاقة، والثاني يتعلق بإمكانية إنهاء العمل، عاجلاً أم آجلاً، في الأنبوب الجديد.
على الرغم من التوتر السياسي بين روسيا ودول الإتحاد الأوروبي، أخيرا، إثر اتهام ألمانيا الصريح موسكو بمحاولة قتل المعارض، ألكسي نافالني، وهو يعالج في برلين حالياً، إلا أن الغاز سيستمر في التدفق إلى أوروبا، ولن تنفع التهديدات الأوروبية المحدودة وغير المزودة بأدوات فاعلة. هذا الأنبوب استراتيجي للروس، لأنه سيؤمّن هيمنتهم الكاملة على سوق الطاقة في أوروبا، في ظل عجز السياسات الأوروبية عن الاستقلال في هذا الملف. وهو سيساعد على الالتفاف حول أوكرانيا وعدم الخَضوع لتوتر العلاقات بين موسكو وكييف. من جهتها، تعتبر ألمانيا المستفيد الأكبر من الأنبوب الجديد. لذلك هي تتجاوز مسألة المعارض الروسي بواقعية قصوى، وتحصر الأمر في الجانب الاقتصادي الاستراتيجي.
وفي غياب موقف أوروبي موحد تجاه روسيا، يُشعرها بوجود ضغط حقيقي، لكي تتراجع عن التأثير سلباً في محيطها عموماً، وفي منطقة المتوسط خصوصاً، كما في ظل فقدان مؤسسات الاتحاد الأوروبي آليات تساعد الأعضاء على التخلص من التبعية لروسيا في مجال الطاقة، فأي حديثٍ عن خلافات مع روسيا لن يتجاوز التلميحات والرسائل غير المباشرة التي تعوّد الطرفان على تبادلها منذ ما قبل نهاية الحرب الباردة.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت