ليست المعركة اليوم بين أرمينيا وأذربيجان، كالجولات السابقة من الحروب بين البلدين، والتي انتهت بانتصار أرميني حاسم عام 1994. حينها، كانت الاصطفافات الإقليمية مختلفة، وسط صعود وهيمنة أميركية واضحة. لهذا، من الصعب اليوم عدم ربط الصراع في نيغورنو كاراباخ أو أرتساخ (التسمية الأرمنية)، بالتحول الإقليمي الأوسع، وانتقالنا من عالم تسود فيه الهيمنة الأميركية، إلى آخر تتصارع فيه القوى الصاعدة وأحلامها الإمبراطورية.
تحصل أذربيجان على دعم تركي صريح، وهي تخوض المعركة على أساس إعادة تصحيح الوضع القائم، واستعادة الأراضي التي خسرتها. لكن أي تقدم أذربيجاني سيُحتسب لمصلحة أنقرة، لجهة أن سلاحها النوعي تركي وكذلك دعمها السياسي. لهذا فإن الفارق بين معارك اليوم والأمس، أساسي، ويؤشر الى الطابع الإقليمي للمعارك.
بيد أن أي طاولة حوار أو نقاش جدي للحل، لن يكون أرمنياً-آذربيجانياً، بل سيضم كرسيين للرئيسين التركي رجب طيب أردوغان والروسي فلاديمير بوتين. والأرجح أن أي لقاء في هذا الشأن، سيتطرق الى قضايا أخرى “ذات الاهتمام المشترك”، في ليبيا وسوريا وربما ساحات أخرى قيد البناء. سبق أن أعلن بوتين وأردوغان في بيان مقتضب شهير، وقفاً للنار في سوريا وليبيا مرة واحدة. كانت لحظة امبراطورية مجيدة لم تكن مُتاحة لولا تراجع الولايات المتحدة ونفوذها في المنطقة.
عودة الاشتباكات اليوم الى هذا الإقليم المتنازع عليه بين أذربيجان وأرمينيا، تُؤشر الى تبدل في موازين القوى بين البلدين، لمصلحة الأول، وبالإمكان تسجيل 3 ملاحظات في هذا الاطار.
أولاً، هناك تراجع أساسي للايديولوجيا، وتركيز على المصالح فحسب. إسرائيل وتركيا على المقلب ذاته في هذه المعركة، رغم أن ايران لم تحسم أمرها وتتعامل مع الحرب بحذر نتيجة تعاطف الأقلية الأذرية الكبرى في الداخل الإيراني، مع أذربيجان.
ثانياً، التعامل مع الصراعات بات على القطعة. صحيح أن الصراع التركي-الروسي ثابت هنا (كما الحوار والقنوات المفتوحة دوماً بين الجانبين)، لكن دولاً (ثانوية لكن مهمة) مثل إسرائيل، قررت الاصطفاف الى الجانب الأذري (والتركي أيضاً)، في حين يتعاطف النظام الإيراني (ولو ضمنياً-ليس علناً) مع الجانب الأرمني، تماماً مثل خصومه العرب في الخليج. إيران في موقف حرج وتتعامل بحذر مع الصراع، لكنها تنتقد وجود قوات سورية موالية لتركيا على حدودها. كلما طال أمد الصراع، ازدادت متاعب النظام الإيراني.
ثالثاً، بات كل صراع معركة حياة أو موت على المستوى الإقليمي. بالنسبة لأنقرة، فإن نجاح القوة العسكرية التركية في قلب موازين القوى، كما فعلت أخيراً في ليبيا، سيُحتسب في ميزان نفوذها الإقليمي. لن ينحصر هذا الانتصار في منطقة دون أخرى، بل سينسحب على خريطة النفوذ التركي بأسرها. روسيا، من جهة ثانية، ترى في انتصار أو صمود أرميني، فوزاً لمحورها ونوعاً من رد الاعتبار بعد الصفقة التي تلقتها موسكو في ليبيا مع فشل قوات الجنرال خليفة حفتر وتراجعها بشكل كبيرة.
لكن هذا الإصرار ورفع مستوى الالتزام المحوري في هذه الصراعات، مهما انحصرت رقعتها الجغرافية، يؤشر الى اضطراب ينتظرنا. إذا كانت كل أزمة بمثابة “مبارزة امبراطورية”، قد تكون النهايات السعيدة مستحيلة. بل الأرجح في هذه الحالة أننا أمام صراعات مستدامة ليس فيها ساعة تضبط أمد المبارزات على طاولات الشطرنج في كل منطقة.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت