في أمسية من أمسيات خريف 2011 وصل لأسماعنا صوت رصاص يطلق بكثافة في الهواء بما يشبه الاحتفال… كنا قد اعتدنا الاجتماع، بوصفنا مجموعة من المثقفين والسياسيين المعارضين، للتداول حول تطورات الحراك السلمي السوري واندفاعات النظام العدوانية للنيل من عزيمة المتظاهرين العزل… كان اللقاء في بيت يقع على مشارف حي ضاحية قدسيا، حيث تحاذيه أحياء عدة يسكنها كوادر وضباط السلطة من الأمنيين والعسكريين. لوهلة؛ بدا الأمر غريباً ومقلقاً، وساورتنا الشكوك بأن ثمة حدثاً جللاً قد وقع… لملمنا أوراقنا بسرعة وغادرنا المنطقة… كانت المفاجأة حين تقصينا سبب إطلاق ذاك الرصاص، أنه توجيه من السلطة للاحتفاء بوصول رسالة تطمينية من قادة إسرائيل بأنهم لا يزالون على عهدهم بتفضيل النظام القائم على ما عداه، ورفض إسقاطه أو تغييره!
قبل ذلك بعقود؛ عندما سألنا أحد زعماء «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين»: لماذا لا تستثمرون حدود الجولان المحتل للقيام بعمليات فدائية ضد إسرائيل؟ جاء جوابه سريعاً وصريحاً، بأنه يمكن، ربما، لمرة واحدة، اختراق الرقابة الشديدة التي تفرضها القوات السورية هناك، لكن بعدها لن يتهاون نظام البعث في تشديد رقابته والنيل بقسوة ممن ينتهك ثوابته وحرمة حدوده مع إسرائيل، كما الفتك برفاقنا وكوادرنا حيث نوجد في سوريا ولبنان والأردن، ليقطع الطريق على كل من يفكر، ولو مجرد تفكير، في التسلل عبر الحدود السورية.
أدوار تبادل المنافع واضحة، لا غموض فيها ولا لبس، يحدوها رهان، ولنقل اتكاء، قديم للسلطة السورية على رضا دولة إسرائيل، لضمان بقائها واستمرارها، متوسلة تسويق نفسها بصفتها أفضل حام لاستقرار الحدود؛ مرة لتجنب حرب مباشرة قد تضعف ركيزتيها العسكرية والأمنية، ومرة ثانية، لأنها تدرك أن حكام تل أبيب يتحسبون من أي تغيير في سوريا قد يهدد مصالحهم وأمنهم، وأن لهم كلمة قوية في أوساط المجتمع الدولي حول مستقبل الأوضاع في بلد يجاورهم ويحتلون جزءاً من أرضه، ولا يغير هذه الحقيقة، تفعيل نظام دمشق، بين آونة وأخرى، أدواته السياسية والإعلامية، لإثارة موضوع الجولان المحتل وتنشيط العداء لإسرائيل، وتوظيف ذلك ورقةً لتمرير «شرعية وطنية» تمكنه من تسويغ سيطرته على اقتصاد البلاد والاستئثار بثرواتها، وأيضاً لتغذية اصطفافه مع ما يسمى «محور الممانعة» ولابتزاز بعض الدول العربية، والأهم لتسويغ قمعه وتطويعه؛ ليس فقط المجتمع السوري الذي عانى الأمرّين قهراً وتمييزاً من وطأة زيف الشعارات الوطنية، وإنما أيضاً قوى فلسطينية ولبنانية وتسخيرها لتحسين نفوذه الإقليمي، حتى وإن وصل الأمر، في بعض المحطات، لخوض معارك وحروب بالوكالة، في جنوب لبنان أعوام 1978 و1982 و1996 و2006، وفي غزة عامي 2008 و2012.
في المقابل؛ لاقى حكام تل أبيب على أفضل وجه، هذا الخيار للنظام السوري بصفته نظاماً مجرباً حافظ على جبهة الجولان آمنة ومستقرة طيلة عقود، وتحديداً منذ اتفاقية فصل القوات عام 1974، فلم يترددوا أو يتأخروا، في غير أزمة اعترته، عن دعم بقائه واستمراره؛ إنْ لتخفيف العبء العسكري والأمني الواجب عليهم لحماية الحدود وضمان استقرارها، وإنْ بدافع من مصلحتهم العميقة في استمرار الاستبداد والفساد وسيلةَ حكم في سوريا بما يلجم حضور المجتمع الحي في المشهد، يحدوهم عداء أصيل لقيام نظام ديمقراطي هناك يمكن أن يحدث تبدلاً استراتيجياً في الوضع القائم ويحمل فرصة النهوض بالبلاد وتعزيز قدرتها على المطالبة الجدية باستعادة الأرض المحتلة؛ الأمر الذي أشار إليه بوضوح أحد المسؤولين الإسرائيليين بأن ما جرى ويجري في سوريا لا يقدّر بثمن، وبأنه ليس ثمة ما يجعل السوريين ينسون الجولان المحتل ويغدو مصيره كمصير لواء إسكندرون، سوى أن يغرقوا حتى آذانهم في مثل ذلك العنف والتفكك والخراب!
من هذه القناة يمكن النظر إلى تحذيرات صريحة أثارها قادة إسرائيل حول مخاطر انتصار الثورة السورية على أمن دولتهم، وإلى نصائح قدموها للبيت الأبيض لتخفيف الضغط على النظام وتركه لشأنه، وللجم الاندفاع نحو تقديم دعم عسكري نوعي للمعارضة السورية يمكنه تعديل موازين القوى، وأيضاً إلى مسارعتهم لإعلان تأييدهم الكامل التدخل العسكري الروسي، وقبله غض نظرهم عن الدور الإيراني وعن الدخول الكثيف لـ«حزب الله» في الصراع السوري، ولا يغير هذه الحقيقة؛ بل يؤكدها، رهانهم على النزاع المذهبي في النيل من أهم كوادر «حزب الله» والإجهاز على ما تبقى من سمعته السياسية كحزب مقاوم، كما لا يغيرها التفاتهم نحو تحجيم نفوذ إيران في سوريا بعد تنامي الوزن العسكري الروسي، عبر ضربات جوية طالت أهم مواقع «الحرس الثوري» في أرياف دمشق ودرعا وحمص واللاذقية، لمحاصرة تمدده، ومنع وصول أسلحة متطورة إلى «حزب الله» قد تبدل «الاستاتيكو» القائم.
لا دخان بلا نار، وربما هو خبر صحيح ما أثير حول حدوث مفاوضات سرية بين إسرائيل وسوريا، أو وجود ضغط من موسكو على دمشق لفتح ملف التفاوض مع تل أبيب، وربما صحيح أيضاً أن النظام السوري الضعيف والمحاصر، يحتاج اليوم؛ أكثر من أي وقت مضى، لطرق البوابة الإسرائيلية بوصفها مدخلاً سريعاً ومضموناً لتخفيف الحصار وتمهيد الطريق للانفتاح على الغرب وإعادة تأهيله دولياً، لكن الصحيح أيضاً أنه في ضعفه وارتهانه لا يزال يحتاج إلى الديماغوجية الوطنية لتسويق نفسه شعبياً ولتمرير اصطفافه المريب مع إيران وارتكاباته الشنيعة بحق الشعب السوري، مما يفسر تحريك معاركه الإعلامية ضد التسويات المنفردة، والعودة للتشديد على الحل الشامل ومبدأ الأرض مقابل السلام؛ شرطاً للتطبيع.
يدرك الجميع أنه لا أفق لتسوية تعيد الجولان لسوريا، فإسرائيل لن تعطي النظام في ضعفه ما لم تعطه وهو في أوج قوته، كما أن ميلها للتطبيع معه بوصفه بوابة للانفتاح على العالم العربي قد فقد اليوم كثيراً من قيمته، بعد الإعلان عن بدء ترسيم الحدود مع لبنان، وإذا أضفنا حقيقة أن ليس ثمة ما يشي بحدوث تبدل في التوافق الضمني بين حكام دمشق وقادة تل أبيب، وفي عراقة تبادل المنافع بينهم، فلا يجانب الصواب من يسأل: ما الحاجة إذن للمفاوضات بين سوريا وإسرائيل؟!
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت