لم يمهل بوتين المبعوث الدولي السيد غير بيدرسون كثيراً، ولم ينتظره حتى يقدّم إحاطته عن الشأن السوري أمام مجلس الأمن، إذ بادرت طائراته إلى شن غارة جوية على جبل الدويلة يوم الإثنين الفائت ( 26 – 10 – 2020 ) مستهدفةً معسكراً تدريبياً لفيلق الشام، ما أودى بحياة أربعين من عناصر الفيلق، وإصابة حوالي ثمانين آخرين.
إلّا أن هذا الاستهداف الروسي لفصيل شريك له في كافة مسارات التفاوض ( جنيف – أستانا ) لم يكن ليحرج بيدرسون كثيراً، إذ – وكما هو معتاد – قدّم تقريراً مفصلاً لمجلس الأمن في 27 – 10 – 2020 عن مجمل ما مرّ من أحداث وقعت منذ انتهاء الجولة الثالثة من لقاءات اللجنة الدستورية وحتى ساعة إعداده لتقرير الإحاطة، وحين ذكر الغارة الجوية الروسية كان حريصاً جداً على أن يتبعها على الفور بالحديث عن ردّ الفصائل العسكرية المتمثل باستهداف بعض المواقع لقوات النظام والروس معاً، وبهذا يكون ما حصل – وفقاً لبيدرسون – خرقاً متبادلاً للتهدئة المبرمة بين الجانبين التركي والروسي في الخامس من آذار الجاري، وبهذا – أيضاً – يكون بيدرسون قد أعفى نفسه من القول أو الإشارة على الأقل بأن الروس هم من بدؤوا بخرق الهدنة.
لعلّ الثقة الزائدة لبوتين فيما يقوم به المبعوث الدولي الحالي، لا تقل عن ثقته بسلفه ستيفان ديمستورا، إذ إن كلا الرجلين كان مؤدّباً للغاية، ولم يحاول كلاهما منذ العام 2014 وحتى الساعة الخروج عمّا ترسمه روسيا وتعمل لتحقيقه، إذ تحوّل العدوان على حلب الشرقية وتهجير أهلها ( نهاية العام 2016 ) من جريمة بحق الإنسانية إلى منطلق جديد لمسار تفاوضي ( أستانا مطلع العام 2017 ) وفي حين أنه كان مرسوماً لهذا المنطلق أن يكون مساراً خاصاً بالشان الميداني والإنساني ( وقف إطلاق النار – فك الحصار عن المدن والبلدات المحاصرة – البحث في قضايا المعتقلين والمغيّبين ) ولكن سيرورته بدأت تكشف منذ البداية عن أنه التفاف روسي على مسار جنيف، ومحاولة روسية لتحييد القرارات الأممية عن أي حل سياسي، موازاة مع استمرار الحرب الروسية على المدن والبلدات والقرى التي نزح معظم سكانها وتحولوا إلى لاجئين.
لقد انقضى أربعة عشر لقاء من أستانا ولم يتحقق نتيجة تلك اللقاءات مجتمعة أيٌّ من شعاراته الزائفة، إذ لقد تحولت مناطق خفض التصعيد إلى هدف لقوات النظام والروس، إلى أن تمكنوا من السيطرة عليها كاملةً، كما باتت القضايا الإنسانية المشار إليها في البنود ( 12 – 13 – 14 من القرار 2254 ) راكدة لا أحد يجرؤ على إثارتها.
ولئن تشكّل مسار أستانا نتيجة لتفاهم ثلاثي – روسي – تركي – إيراني – إلّا ان المظلة الأممية لم تكن بعيدة عنه، بل لعل ديمستورا كان الأكثر ترحيباً به باعتباره مساراً مكمّلاً أو رديفاً لمفاوضات جنيف التي برع ديمستورا أيّ براعة في شرخها في 23 شباط 2017 ( لقاء جنيف 4 ) حين استطاع إقناع هيئة التفاوض بقبول فكرة ( السلال الأربعة)، مؤكّداً في الوقت ذاته ( تأكيداً شفهياً فحسب) بأن التفاوض حول سلة الدستور سوف يكون متزامناً مع التفاوض حول بقية السلال، تحت شعار ( الاتفاق على كل شيء أو لا شيء).
من المؤكّد أن إصرار الروس على أن يكون لقاء سوتشي( 30 – 1 – 2018 ) مفصلاً أساسياً في عملية التفاوض، باعتباره منطلقاً لتشكيل اللجنة الدستورية، قد أتاح لنظام الأسد فضاءات واسعة للتهرّب والتفلّت من أي استحقاق تحمله القرارات الأممية، ذلك أن أهمّ ما يريده نظام الأسد هو استبعاد العامل الزمني، والدخول في نفق من المماطلة من خلال التركيز على الهوامش والهروب من المتن، تحقيقاً للوعد الذي أطلقه وليد المعلم ( سنغرقهم بالتفاصيل)، ولعل إصرار وفد نظام الأسد في اللقاء الثالث للجنة الدستورية على أولوية مناقشة ( المبادئ الوطنية) يشي بكثير مما يريده الروس والنظام معاً، ومن غير المستبعد أن يستمر النقاش بين وفود لجنة الدستور حول هذه المسائل فترة طويلة من الزمن، ذلك أن المراد منها هو استثمار الوقت دون الوصول إلى نتيجة، وخاصة ان عملية هذا الاستثمار تحظى بغطاء أو تبرير من الجهة الأممية ذاتها.
استراتيجية بوتين المتماهية مع رغبة نظام الأسد حيال العملية التفاوضية باتت واضحة المعالم، كما بات واضحاً أيضاً أن كل ما قيل ويقال عن ضغوطات روسية تُمارس على بشار الأسد لدفعه نحو الانخراط في التفاوض لا يستند إلى أي معطى حقيقي، ذلك أن تأكيد كلّ من لافروف ووليد المعلم في مؤتمرهما الصحفي أثناء زيارة وفد روسي إلى دمشق في السابع من أيلول الماضي على مسألتين اثنتين : ( لا يوجد سقف زمني لأعمال اللجنة الدستورية – ستجري انتخابات الرئاسة في موعدها المحدد بعيدا عن مجريات لجنة الدستور) لهو كلام بالغ الدلالة على عدم وجود أي تباين فيما يسعى إليه الطرفان.
قدرة بوتين على إخضاع مسار المفاوضات بشطريه ( أستانا وجنيف) على أن يسير وفقاً لمصالحه وأهدافه كان متوازياً طيلة الفترة السابقة مع استجابة وفود التفاوض في المعارضة السورية إلى حيث أراد الروس، وبعيداً عن الأسباب والبواعث التي تكمن وراء هذه الاستجابة، فإن بواعث القلق ربما بدات تتراكم أسرع من ذي قبل، ليس لدى المواطنين السوريين فحسب، بل لدى هيئة التفاوض والائتلاف معاً، وخاصة في ظل الاستعصاءات الراهنة في عمل اللجنة الدستورية، إذ إن السؤال الذي يتحاشى مواجهته جميع مفاوضي المعارضة، سياسيين وعسكريين، هو: ما هي خياراتكم المتاحة فيما إذا فشلت أعمال اللجنة الدستورية واستمر الروس والنظام بعدوانهم على السوريين؟ وهل ثمة خطط رديفة للتعاطي مع القضية السورية بأساليب أخرى؟ هذه التساؤلات ربما تتماهى اليوم مع ما جاء في تقرير بيدرسون المشار إليه آنفاً، حين أشار – وربما لأول مرة – إلى أن إحلال السلام في سوريا يحتاج إلى جهود أخرى تتجاوز أعمال لجنة الدستور، فهل تستبطن إشارته تلك بعض الإحباط الناتج من لقائه بمسؤولي النظام وإصرارهم على المماطلة والمناورة دون الانخراط الجدي في المفاوضات، أم لديه أفكار أخرى لم يشأ الإفصاح عنها؟
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت