اتخذت هولندا، مؤخراً، خطوة أولى باتجاه مساءلة نظام الأسد على جرائمه بحق السوريين، عبر توجيه مذكرة دبلوماسية إليه، تتهمه بانتهاك اتفاقية الأمم المتحدة المناهضة للتعذيب، وتطالبه بوقف انتهاكاته والتهديد بإحالة القضية إلى محكمة العدل الدولية. واستندت في ذلك إلى وجود ما يكفي من الأدلة والبراهين القاطعة على انتهاكات نظام الأسد حقوق الإنسان، وخاصة باستخدامه التعذيب.
وتعدّ الخطوة الهولندية الأولى من نوعها، على المستوى القانوني والسياسي، ضد نظام الأسد، كونها على الأقل تُعيد تسليط الضوء على جرائم نظام الأسد. ولا شك في أنها خطوة مهمة يمكنها أن تفتح الطريق أمام رفع قضايا دولية لمحاكمة بشار الأسد ونظامه على الجرائم الممنهجة، التي ارتكبها ضد السوريين منذ اندلاع الثورة السورية في منتصف آذار/ مارس 2011، لذلك تنتظر دعماً دولياً، وخاصة على مستوى دول الاتحاد الأوروبي.
غير أن لجوء هولندا إلى محكمة لاهاي التابعة للأمم المتحدة، والمختصة بالنظر في القضايا الخلافية بين الدول، جاء بالاستناد إلى أن كلا من هولندا وسوريا وقعتا على الاتفاقية الأممية المناهضة للتعذيب، لذلك سلكت الطريق الدبلوماسي الطويل مع نظام الأسد، في انتظار حلّ القضية الخلافية بينهما، بمعنى أن المدخل هو قضية قانونية خلافية، تستوجب استنفاذ كل السبل الدبلوماسية لحلّها قبل أن تعرض على محكمة العدل الدولية، الأمر الذي يطرح أسئلة عديدة
قد تكون خلفية الخطوة الهولندية هي تأكيد التزام هولندي وأوروبي بقيم ومبادئ حقوق الإنسان العالمية، لكنْ سوريون كثر يرون أن الخطوة هي نوع من ذرّ الرماد في العيون
حول جدوى الخطوة الهولندية ومداها وتأثيرها، وإمكانية إدراجها في باب الضغوط السياسية على نظام الأسد لدفعه إلى تقديم تنازلات والانخراط في تسويات سياسية، وعن مغزى اللجوء إلى محكمة العدل الدولية وليس إلى محكمة الجنايات الدولية الخاصة بمحاكمة مجرمي الحرب.
قد تكون خلفية الخطوة الهولندية هي تأكيد التزام هولندي وأوروبي بقيم ومبادئ حقوق الإنسان العالمية، لكن سوريون كثر يرون أن الخطوة هي نوع من ذرّ الرماد في العيون، لأن جرائم نظام الأسد بحق السوريين ترقى إلى مصاف جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية حسب تقارير الأمم المتحدة، وبالتالي فإنهم يشككون في قدرة محكمة العدل في لاهاي على محاسبة النظام لنيل ما يستحقه من عقوبات على جرائمه التي ارتكبها بحق الشعب السوري طيلة عشر سنوات. والمفترض هو أن يمثل رموز النظام أمام محكمة الجزاء الدولية في لاهاي المختصة بمحاكمة مجرمي الحرب، تحقيقاً للعدالة واحتراماً لأرواح الضحايا وعذابات أهلهم وذويهم، لكنهم ظلوا بعيدين عن المساءلات والمحاكمات، وتحت حماية روسيا التي قامت بتعطيل كل السبل المؤدية إلى محاكمتهم في المحاكم الدولية عبر مجلس الأمن الدولي، بالرغم من أن هيئات أممية ودولية وثّقت ارتكاباتهم وجرائمهم، وجمعت دلائل وقرائن عديدة تثبت إدانتهم، لذا ربما اضطرت الحكومة الهولندية إلى سلوك طريق تمكنها من تفادي الفيتو الروسي.
وفيما لاقت الخطوة الهولندية ترحيب عدد كبير من منظمات المجتمع المدني السورية، التي طالبت بضرورة دعم الدول لهذه الخطوة واتخاذ خطوات مماثلة، إلا بعض المنظمات الحقوقية السورية اعتبرتها بعيدة عن مطالب الشعب السوري والضحايا بالعدالة، وأنها محاولة لستر عورة الدول التي تسكت عن جرائم نظام الأسد منذ عشر سنوات. يضاف إلى ذلك شعور سوريين كثر بالخذلان واليأس من تعامل الساسة الغربيين مع الكارثة السورية، لأنهم لم يفعلوا شيئاً حيال إيقافها. كما لم يبذلوا جهوداً من أجل تشكيل محكمة دولية خاصة بسوريا للنظر في جرائم النظام، وخاصة مجزرة الكيماوي في غوطتي دمشق في الحادي والعشرين من شهر آب/ أغسطس 2015، إذ بدلاً من معاقبة النظام على هذه الجريمة البشعة، اتبع الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، نهجاً من المقايضة عبر تسليم النظام المجرم مخزونه من المواد الكيمياوية، مقابل الإفلات من العقاب على الجريمة التي ارتكبها، الأمر الذي جعل النظام يتمادى في جرائمه ضد غالبية السوريين.
وليست الحكومة الهولندية بحاجة إلى أدلة وإثباتات على قيام النظام الأسد بممارسة التعذيب داخل زنازينه ومعتقلاته، بل يكفيها الاستناد إلى صور “قيصر” العسكري المنشق عن جيش النظام في منتصف 2013، الذي تمكن من تهريب نحو 55 ألف صورة لـ 11 ألف معتقل مدني سوري قضوا تحت التعذيب والتجويع داخل سجون النظام. كما أن لجنة العدالة والمساءلة الدولية نجحت في تهريب 600 ألف وثيقة، تدين نظام الأسد، وتوثق عمليات التعذيب والقتل الممنهج داخل أقبية أجهزة النظام وجيشه، تنفيذاً لأوامر عليا، موقعة على الأرجح من طرف بشار الأسد.
والمأمول هو أن يبنى على الخطوة الهولندية ما يمكن أن يفتح الباب أمام محاكمات دولية لنظام الأسد على جرائمه وانتهاكاته، التي لا تنحصر في جرائم القتل والتعذيب والاغتصاب والاختفاء القسري والاعتقال غير القانوني، وكلها يدخل ضمن تعريف نظام روما الأساسي للجرائم ضد الإنسانية، التي يحددها في مجموعة من الأعمال التي ترتكب في شكل هجوم ممنهج أو عام يستهدف مجموعة من السكان المدنيين بطريقة مباشرة. إضافة إلى جرائم أخرى ارتكبها النظام بحق غالبية السوريين، وتعتبر من أشكال جرائم الإبادة الجماعية، من خلال منعه دخول المساعدات الإنسانية إلى المناطق المدنية التي حاصرها لسنوات، وتندرج ضمن ما نص عليه نظام روما، الذي اعتبر جريمة حرب كل عمل يفضي إلى حرمان السكان المدنيين من الحصول على الطعام والدواء.
ولن يغادر الأمل الضحايا وذويهم في أن يمثل رموز النظام أمام المحاكم الدولية، كي تأخذ العدالة معنى عالمياً متجدداً، يتجسد في ملاحقة مجرمي الحرب في سوريا، سواء تعلق الأمر بجرائم راهنة أو قديمة أو بجرائم الأمس القريب، وكي يؤسس مساراً كونياً للجريمة ضد الإنسانية، وللتوبة والاعتراف بالذنب والتكفير عن الخطيئة، ويرسي مفهوم التدخل الإنساني الذي تحتاج إليه سوريا.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت