لا تتناغم السياسة الروسية مع الأميركية، حيث تفترض الأخيرة تهميشاً لإيران وتغييراً كبيراً في النظام، وفي ذلك تدعم سياسات متعدّدة لكل الدول المتدخلة في الشأن السوري، ولا تتعارض، في بعض الأحيان، حتى مع السياسة الإيرانية ذاتها، والتي تطلب منها إبعاد قواتها عن الحدود الإسرائيلية بصفة خاصة.
تنطلق السياسة الروسية من أن قواتها هي الشرعية الوحيدة في سورية، وأن لها وحدها الحق بتقرير مصير النظام، ووفقاً لما ترتئيه، وترفض السياسات العالمية التي تقترح تغييره، وفقاً لقرارات دولية صدرت بحقه. الاستراتيجية الروسية، وبدءاً من 2015، انتهجت خيار التدمير الممنهج لمناطق المعارضة، ومسار أستانة وخفض التصعيد وسوتشي واللجنة الدستورية، وأخيراً عقد مؤتمر اللاجئين في سورية، وهو ما تمّ رفضه أوروبيّاً وأميركيّا وتركيّا، وبالتالي ترفض روسيا الوجود الأميركي في سورية، وتعتبره اعتداءً على استقلال سورية ويهدّد وحدتها! ولكن ذلك الرفض يظل في إطار محاولات تهميش الوحدات الكردية، أو دفع تركيا إلى محاصرتها أو التحرّك في الحدود التي تسمح بها أميركا، وبالتالي هي ترفض الوجود الأميركي، ولكنها مضطرّة للقبول به. والأمر ذاته مع تركيا، ولأسبابٍ كثيرة، كإبعادها عن حلف شمال الأطلسي أو استخدامها نافذة للطاقة لها، أو بسبب تعارضها مع الاتحاد الأوروبي وسواه. وبخصوص سورية، استغلت روسيا تركيا لتمكين الأولى من السيطرة على مناطق واسعة، كانت خارج سيطرة النظام. أما إيران فوجود قواتها البرية ساعد روسيا على خوض معارك كثيرة ضد الفصائل الرافضة للنظام، ومن دون وجود أي قوات روسية برية تذكر. وبالتالي، لم يعد الجنود الروس قتلى إلى بلادهم، كما حدث مع أفغانستان من قبل، وهو ما كان سيهدّد حينها السياسة الروسية بأكملها في سورية والمنطقة.
إذا للسياسة الروسية عناصر قوة وعناصر ضعف، القوة من خلال محدودية خسارتها البشرية في الحرب السورية ودعم شعبي لها في روسيا في احتلال سورية، وهو ما سمح لها بعقد اتفاقيات اقتصادية، تتجاوز في أبعادها ذلك إلى بقاء طويل الأمد، يكاد يحوّل سورية إلى بلد حيوي لها، كحال السعودية لدى أميركا مثلاً. واعتماد روسيا على تركيا وإيران في احتلال سورية قيّد استراتيجيتها، ودفع أميركا إلى ترسيخ وجودها في سورية، وبالتالي خسرت روسيا كثيراً بسبب استراتيجيتها المركبة هذه، وبالتالي، أصبح وجودها القوي في سورية مربكاً بدوره، ويكاد تأخر تسوية الوضع في سورية يرتبط بارتباكها ذاك. لنلاحظ هنا دعم كل الدول المتدخلة في الشأن السوري لمواقف وسياسات مرهون تنفيذها بروسيا، ولا تحدّ من سيطرتها على هذا البلد، ربما باستثناء إيران. ولهذا نرى خلافاتٍ معها بخصوص السيطرة على سورية، وهو ما لا نجده بالحدّة ذاتها مع أميركا أو تركيا مثلاً، ولهذا أسباب كثيرة، ويبدأ في الإجماع الدولي على رفض السياسات الإيرانية في المنطقة العربية بأكملها، وليس في سورية فقط.
تعدّ تركيا أكثر المستفيدين من التخبط والارتباك الروسي. وبعيداً عن سياسات المعارضة السورية الرديئة، والتي تَعتبر تركيا من أكبر الداعمين للثورة السورية، فإن تركيا لم تكن معنية بالثورة، ويهمها تحقيق مصالحها أولاً. ولهذا كانت من أقوى الدول في علاقتها مع النظام السوري قبل الثورة، وحتى في الأشهر الأولى لها، ولاحقاً دعمت بعض الاتجاهات في الثورة، وحينما تعارضت مصلحتها مع تلك الاتجاهات ومع الثورة، فضلت أن تتحالف مع روسيا، ولو أدّى الأمر إلى تقسيم سورية، وليس فقط التضحية بالثورة، ولهذا وطّدت علاقتها مع أكبر شريكين للنظام السوري في سحقه الثورة السورية، وأقصد إيران وروسيا، وحققت لنفسها إلحاق مناطق كثيرة “درع الفرات، وغصن الزيتون، ونبع السلام، وأرياف كثيرة في حلب وإدلب والحسكة”، وهذا ما ستكون نتائجه كارثية على مستقبل سورية، سيما إن ذهبت روسيا باتجاه تقسيم سورية، أو مراعاة السياسة التركية في مناطق سيطرتها في أثناء تلاقي سياسات الدول المتدخلة بالشأن السوري والبدء بالحل السياسي.
تعدّ تركيا اللاعبة الأقوى على الخلافات الروسية الأميركية، فقد استفادت من الوضع الإشكالي في ليبيا، ودعمت حركة الوفاق التي تدعي التمثيل الشرعي والدولي، بينما ظلت روسيا تتحدّث عن “ضحك” أميركا لها، والتخلص من معمر القذافي، ولاحقاً دعمت جنرالاً فاشلاً (خليفة حفتر)، وما زالت تتخبط في ليبيا. الأمر ذاته أعادته بخصوص الأزمة المتفجرة بين أذربيجان وأرمينيا، بخصوص إقليم ناغورنو كارباخ؛ ففي وقتٍ وقفت تركيا بشكل حاسم مع أذربيجان، وتتدخل هي وإسرائيل في الحرب ضد ذلك الإقليم، وضد أرمينيا، اتخذت روسيا موقف الحياد والمراقبة، والدعوة إلى إيقاف إطلاق النار وعدم توسيع الحرب إلى حربٍ شاملةٍ بين أرمينيا وأذربيجان. وروسيا بذلك تتخبط كثيراً، فالحرب في جنوب القوقاز تحرق ليس إقليم كارباخ، بل المصالح الروسية في تلك الدول، وبالتالي تتوسع الاستراتيجية التركية على ضوء الارتباك الروسي.
تكمن القضية في أن أميركا تخفف من حضورها في منطقتنا، وحتى في القوقاز. ولهذا تتمدد هذه الدول وحتى إيران ذاتها، وهذا يعني أن النفوذ التركي الذي يعاني في الحوار مع أميركا والاتحاد الأوروبي. وأخيرا، بخصوص التنقيب عن الطاقة في المتوسط، يقوى في المنطقة العربية وجنوب القوقاز، ويسمح لها ذلك، بالتحول إلى دولةٍ إقليمية بامتياز، وإذا سارت السياسات العالمية نحو تشديد الحصار على إيران أكثر فأكثر، فإن تركيا وإسرائيل ستكونان الدولتين الأقوى في منطقتنا، وليس روسيا.
هناك صفقات جديدة تتحدّث عن ترسيخ نفوذ تركيا في سورية، وربما يحصل تبادل معين بين مناطق في إدلب لصالح روسيا ومناطق في منبج وتل رفعت أو مناطق أخرى لصالح تركيا، سيما عين عيسى، وهي خطوة جديدة، توضح أن حسابات تركيا هي أولاً وليس مصلحة الشعب السوري في تغيير النظام. صحيحٌ أن روسيا بذلك تحاصر الوحدات الكردية، وربما تزيد من وجود قوات إقليمية لمحاصرة الوجود الأميركي في الجزيرة السورية، وبالتالي تربكه، ولكن روسيا بذلك تربك سياساتها هي بالذات، حيث ما زالت تؤجل معركتها ضد إيران، وتعقد صفقاتٍ مع تركيا، ترسخ نفوذ الأخيرة، وسيكون وجودها لحماية ملايين السوريين من ناحية، كما تدّعي. ومن ناحية أخرى، سيسمح وجودها العسكري في سورية لها بدور تقريري في أي حل سياسي مستقبلي.
إذا هناك تخبّط كبير في السياسة الروسية في سورية وسواها، وهناك تصاعد في الدور التركي. سيتغير ذلك كله حينما تتقارب كل من روسيا وأميركا إزاء الوضع السوري وكل قضايا المنطقة والعالم، وهذا مؤجّل بدوره.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت