الأسد واللجنة الدستورية.. والفكرة الإسرائيلية
ستبقى استراتيجية رئيس وزراء الاحتلال الأسبق إسحاق شامير، التي وضع أسسها حول المفاوضات مع الجانب الفلسطيني في “مؤتمر مدريد” للسلام 1991، موضع تذكير مستمر عن “جرجرة” و”شحشطة” الفلسطينيين عشرات ومئات السنين، بمفاوضات لن ينالوا منها شيئا. أثبت ربع قرن من المفاوضات صحة النظرية الإسرائيلية، وبقيت استراتيجية نظام الأسد المستنسخة لنظرية شامير حول مفاوضة السوريين على حقوقهم حاضرة في كل جولة. ومنذ الجولة الأولى لمفاوضات جنيف 2012، أفصح وزير خارجية النظام وليد المعلم آنذاك، عن قدرة النظام إغراق العرب والسوريين والعالم بالتفاصيل والذرائع.
بعد تسعة أعوام من فشل معظم الموفدين الدوليين إلى سوريا في إرغام الأسد على وقف عمليات القتل والإبادة للسوريين، والإقرار بمسار تفاوضي على أساس قرار مجلس الأمن 2254 لعام 2015، والقرارات التي سبقته، وصفَ المبعوث الأممي الخاص إلى سوريا، غير بيدرسون، الجمعة (29 كانون الثاني/ يناير)، الاجتماع الخامس للجنة الدستورية السورية في جنيف بأنه “مخيب للآمال”، وبعدم قدرة المجتمع الدولي المضي بهذا الشكل.
ليست المرة الأولى التي يخلص فيها موفد دولي وأي مراقب لهذه النتيجة المعروفة بخواتيمها وذرائعها المعقدة والمتشعبة، الخرق الوحيد فيها المسمى “نجاح المسعى” أنجزته قوى الاحتلال الروسي على الأرض، وفي مسرح السياسة الذي تُلاعب به أطياف المعارضة السورية بمسمياتها ومنصاتها.
منذ ابتكار المحتل الروسي لأفكار أستانا وسوتشي كقاعدة انطلاق لحوار “سوري- سوري” بدعم إيراني وتركي، كان المبعوث السابق للأمم المتحدة “ستافان ديمستورا” يعول على نسخها المتكررة بحدوث اختراق ما، فكان اختراق أجساد وجغرافيا السوريين عنوانا واضحا للعبة يديرها المجتمع الدولي، بمنح النظام الوقت الكافي للسيطرة بالقوة على الجغرافيا السورية، وبتعطيل الجوهر الأساسي من عملية المفاوضات، من توفير الحماية للضحايا إلى توفير الحماية لقاتل الشعب السوري.
فالآلية السياسية التي مضت بها عملية المفاوضات من رأسها إلى قاعها، من خلال شل وتعطيل قدرة المجتمع الدولي وممارسة دوره الحقيقي في حماية السلم الدولي، تعني تشابه كل جولات المفاوضات، بما يذكرنا بلعبة الصهيوني شامير ونظريته بجرجرة الفلسطينيين عشرات الأعوام خلف المفاوضات، وهو ما تم حتى اليوم.
استعار النظام السوري وحليفه الروسي نظرية شامير وعتاة الصهيونية بـ”شحشطة” المفاوضين، وبتأدية سلوك المحتل الإسرائيلي بكل التفاصيل المتعلقة بإدارة حصار السوريين وتشتيتهم، بتفوق ملحوظ بعمليات الإبادة الجماعية بالمجازر وعمليات الاعتقال لعشرات آلاف السوريين وجرائم الحرب الموثقة، وضرب النسيج الاجتماعي بالتطهير العرقي لمئات القرى والبلدات.
وعليه يصبح السؤال عن الغرض من المفاوضات اليوم ومآل اللجنة الدستورية التي يشكل الأسد الجزء الأساسي منها بدعم روسي إيراني وبنفاق دولي عن جرائمه، والسماح له بأخذ الوقت الكافي لتدمير المجتمع السوري، وإعادة ترشحه مجددا للتحكم برقاب السوريين، والإفلات من العقاب عن جرائمه، مثلما منحت محطات التفاوض عدو الشعب الفلسطيني الوقت لتكثيف الاستيطان والسطو على الأرض وتهويدها.. أعطت محطات التفاوض الجنيفية والأستانية عدو السوريين الوقت الكافي لإزهاق أرواح مئات الآلاف، وتدمير مدن وأرياف السوريين، وتحويل الملايين لمهجرين ونازحين.
عدم معالجة القضايا الجوهرية في جلسات التفاوض، وعلى رأسها رحيل النظام ومحاكمته عن جرائم لا حصر لها، يعني إقرارا بقبول فعل الإبادة الجماعية والمجازر وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية المتهم بها نظام الأسد وحلفاؤه المحتلون. وما لم يكن مبدأ المفاوضين بإجماع على هذه النقاط، فإن تراخي المواقف الدولية مستمر دون حصول السوريين على الحرية والمواطنة والعدالة.
عقلية شامير التي يحملها نظام الأسد ويقرأ تفاصيلها وكلاؤه على الطاولة “نجحت” في محطات جنيف وأستانا وسوتشي. ومثلما تسلح المحتل بدعم أمريكي لعقلية السيطرة والإبادة والتهويد والسطو، تسلح نظام الأسد بموسكو من خلال اللجنة الدستورية لإنجاح عقلية السيطرة والتعفيش والسطو لتربع الطاغية على جماجم السوريين وحطام مدنهم.
النتائج المحتومة بالأسى ذاقها الفلسطينيون، ويتجرعها السوريون بكل خطوة مبتهجة بوهج الاحتفاء بانطلاق مفاوضات بعيدة عن آمال الشارع وتضحياته. لا يضرب في غيب الأحداث من يشير إلى فشل عناصر جولات تفاوض قادمة توهم السوريين، ولا يسجل “نجاح” هنا في مفهوم التفاوض إلا لموسكو ودمشق وطهران، من قبل في أستانا إلى جنيف وجلساتها المتعددة.
تفرض موسكو وبعض النظام العربي تحجيم مكتسبات السوريين في التفاوض بعد فرض هزيمة عسكرية في الميدان لصالح الأسد. لا شيء يؤطر الصورة هنا بشكلها الصحيح، سوى خوف المعارضة وتذبذبها مما تَدّعي وتدعو له موسكو، لذلك يمكن اعتبار خيبة آمال المبعوث الدولي غير بيدرسون تتويجا لتخاذل ونفاق المجتمع الدولي، بعدما أسفر عدوان موسكو وطهران على إحداث آثار بعيدة المدى عززت من فشل المفاوضات ونزع جوهرها القاضي برحيل الأسد.
التعامل مع الملف السوري بعد إفراغ مبدأ التفاوض من جوهره، وبعد جرجرة المفاوضين إلى كمائن موسكو والنظام السوري، هو ما انتهت إليه حال المعارضة السورية منذ تسعة أعوام، يستكشفون فيها أفق حلحلة موقف النظام من قضايا عديدة، صغيرة وكبيرة، بينما واقع حال النظام وتحالفاته ووظيفته كشفت عن وجهٍ بشع معادٍ لتطلعات السوريين، وبهما تتطابق صورة الطاغية والمحتل في الميدان وعلى فكرة المفاوضات.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت