رغم كل الفظائع التي خبرها السوريون، قبل وبعد انطلاق الثورة، يصعب المرور بحيادية على بعض الأخبار. من ذلك خبرُ تكريم أمهات مئة وخمسة شهداء في نادي الضباط في حمص، لمناسبة عيد الأم. موقع “الثورة أون لاين” يُفرد مساحة خاصة صغيرة للنبأ، فيُخبرنا بأن التكريم خاص بأمهات “ضحّين بثلاثة من أبنائهن في سبيل الدفاع عن الوطن”، بينما موقع جريدة البعث يُلحق الخبر بخبر تكريم عاملات في حمص لمناسبة عيد الأم، إلا أنه في سطرين يفيدنا بأن التكريم كان للأمهات اللواتي قدّمن ثلاثة شهداء “أو أكثر”، ويورد العدد المشار إليه أعلاه.
هذا حدث يستحق مجيء المسؤولين عن موسوعة غينيس للأرقام القياسية من أجل توثيقه، إذ لا يتكرر في التاريخ جمْعُ حوالى ثلاثين أمّاً لثلاثة “أو أكثر من الشهداء” تحت سقف واحد، ومن مدينة صغيرة واحدة. بل، باستنتاج بسيط وسهل، نستطيع الجزم بوجود عدد أضخم، يستحيل تجاوزه إذا سُجّل في الموسوعة، لو احتُسب عدد الأمهات المماثلات في المدن والمناطق التي بقيت تحت سيطرة الأسد خلال السنوات العشر الأخيرة. من المستغرب ألا تبادر سلطة الأسد إلى استثمارهن على هذا النحو، وبوصفهن أمهات لأجل الأسد بدل تلك الإشارة المبتذلة إلى الوطن.
في متاجرة طائفية معكوسة، ينشر موقع “الثورة أون لاين” النبأ مُرفَقاً بصورة لامرأة محجبة تحمل صورة تجمع أبناءها الثلاثة القتلى، ذلك كي لا يذهب الظن بالقارئ إلى أن أولئك الأمهات هنّ علَويات حصراً. تأكيد لا يحتاجه من يلمّ قليلاً بالوضع السوري، ويعرف كيف قاد بشار الأسد قواته إلى المقتلة، فلا يتخيّل عناصر تلك القوات كافةً من المتعطشين مثله إلى دماء سوريين آخرين. في الواقع، بينهم ذلك التوّاق إلى إبادة المعارضين وربما ذهب إلى المعركة تطوعاً، وبينهم من يرى وجوده في خدمته الإلزامية أمراً من طبيعة الحياة، وبينهم أيضاً من لا يريد أن يُقتل أو يَقتل لكنه لم يتمكن من النجاة من هذا المصير لسبب أو لآخر من ضمنها اعتباره قدراً لا يستطيع معاندته.
مع بدء حرب بشار على الثورة، كانت هناك أمّهات شجّعن أبناءهن على القتال، بل في بعض الحالات شجعن الأبناء على القتال ثأراً لأخ قتيل ليُفجعن بأولئك الذاهبين إلى الانتقام. لم يكن البعد الطائفي غائباً كلياً، مثلما تريد صورة الأم المحجبة إفهامنا، ولم يكن هو الوحيد على الإطلاق. بتوالي السنين والتطورات، نستبعد وجود الأمهات اللواتي يشجعن أبناءهن على الانخراط في متوالية لا تنتهي من الثأر، وضمن أفق غير معلوم للحرب وأهدافها. حتى إذا وجدت قلة منهن، لن يكون العدد بالمئات أو الآلاف كما هو متوقع بالقياس إلى هذه الاحتفالية الصغيرة.
نحن لا نعرف عدد الأمهات اللواتي فقدن اثنين من أبنائهن في المدينة نفسها، ولا عدد اللواتي فقدن ابناً واحداً. وفق المعيار الاحتفالي، لا مكان لمن ضحّين بأقل من ثلاثة أبناء. تلك الأمهات اللواتي لم يحالفهن الحظ بمقتل ثلاثة من أبنائهن، ربما لأنهن “قصّرن” أصلاً في إنجاب ثلاثة، لا مكان لهن في صدارة البؤس. ومَن منهن بقي لها ابن حي، مقاتل أو غير مقاتل، عليها التواضع والاكتفاء بتهنئته لها بعيد الأم بدل تلقي التهنئة من ضباط ومسؤولين صغار!
في دلالة على أثر الإرغام، لا نرى في الجهة المقابلة عدداً يُعتد به من أمهات فقدن العديد من الأبناء المقاتلين. هناك ندرة من أمهات فقدن العديد من أبنائهن الذين تطوعوا لقتال الأسد، نفترض هنا توفر حافز القتال ضد قوات الأسد لدى نسبة مماثلة من نظيرتها لدى تلك القوات، ولا نهمل الأثر المتزايد للمال في تطويع مقاتلين لا يرون أمامهم فرصاً للعمل والعيش، وهذا عامل برز بقوة في السنوات الأخيرة، بل ربما لم يعد هناك سواه لدى أولئك المتطوعين الذين صار ذهابهم إلى القتال خارج سوريا أبلغ مؤشر على أحوالهم وأحوال أسرهم. وحتى إذا أخذنا الأمهات اللواتي فقدن أبناءهن بسبب قصف قوات الأسد وحلفائه، أي من المدنيين، فمن المرجح ألا نصادف عدداً من الأمهات يماثل أولئك اللواتي فقدن ثلاثة أو أكثر ضمن قوات الأسد وشبيحته. هنا، في الجهة الأخرى، قد نعثر على أرقام قياسية أخرى، من قبيل حصة كل مدني من البراميل المتفجرة.
نظرياً، نفترض أن وجود أمّ واحدة فقدت ثلاثة أو أكثر من أبنائها هو بمثابة مأساة فريدة، أو يجب أن تكون فريدة فلا تتكرر. بقاء الأسدية يتحفنا طوال الوقت بما هو شاذّ بكل المقاييس الإنسانية، وبما يعكس شذوذ الأسدية ضمن ما هو مألوف عن أنظمة الاستبداد نفسها. قلّما وُجدت، أو ستوجد، سلطة متوحشة تخدش إنسانيتنا باحتقارها مواليها وسوقهم إلى حتفهم كما تفعل هذه السلطة.
خمسة سطور في جريدة الثورة، وسطران ملحقان بخبر آخر في جريدة البعث، هذه هي قيمة الأمهات المشار إليهن لدى إعلام الأسد. لكن وعد الأسدية لا يتوقف هنا، فهي “تطور” أدواتها لتستثمر تزاوج وتناسل الواقعين تحت سيطرتها على أكمل وجه. بسبب ذلك النقص الفادح في الذكور، النقص الذي يشرحه وجود أمهات فقدن جميع أبنائهن الذكور، تعِد سلطة الأسد بقانون للخدمة الإلزامية للإناث. ورغم أن القانون المذكور يحدد خدمة الإناث في مواقع غير قتالية، فالغاية الأساسية منه هي دفع الذكور الذين يشغلون تلك المواقع إلى ساحات القتال، ولن يكون مستبعداً لاحقاً الزجّ بالفتيات في المعارك، ومن ثم التغني بهن وببطولاتهن واعتبار مشاركتهن في القتال دليلاً على المضي في مشروع التحديث والتطوير الذي يقوده بشار الأسد.
لقد تدرجت هذه السلطة بين تقديم معزاة إلى أهالي شهدائها وتقديم ساعة حائط لهم! لتصل إلى اصطفاء أمهاتهم المكرَّمات على مبدأ الكثرة، وفي حال بقائها قد لا يجد الواقعون تحت سيطرتها مهرباً سوى الإقلاع نهائياً عن فكرة الإنجاب. كل الاحتمالات قابلة للحدوث ضمن الاستثناء الأسدي، بما فيها توقفنا المطوَّل عند مأساة تلك الأمهات اللواتي أتى ذكرهن عابراً في إعلام الأسد.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت