استنفذ عبد الله وهو موظف حكومي في مدينة جبلة، آخر مدخرات زوجته من الذهب، ليشتري بها مؤونة الطعام لبيته. قبلها باع الرجل الخمسيني شقة سكنية صغيرة، كان يعدها لزواج ابنه الأكبر، الذي شارف على التخرج من الجامعة.
لا يبدي عبد الله خلال حديثه لـ”السورية نت”، حزناً لبيع آخر مدخراته، لكنه لا يخفي خشيته من الأيام القادمة، في ظل استمرار الوضع الإقتصادي المتدهور وارتفاع الأسعار، ويضيف:”لدي أربعة أبناء جميعهم في مراحل الدراسة، راتبي(65 ألفا) لا يكفيني إلا أيام، أصبحت أخاف من مرض أحد أبنائي فجأة ومن أيام أشد سواداً”.
أسواق خاوية
غيرت الأوضاع الاقتصادية السيئة التي يعيشها أهالي الساحل السوري هذه الأيام، الكثير من عاداتهم وتفاصيل حياتهم اليومية، إذ يستذكر عبد الرحيم وهو صاحب متجر حبوب في سوق المدينة الطويل، أيام كان لديه عاملين اثنين للبيع، في حين بات اليوم يجلس وحيداً وبالكاد يدخل زبون أو اثنين كل ساعة.
يضيف الرجل الأربعيني الذي ورث المحل عن والده ونشأ به “لم أشهد في حياتي منظر السوق بهذا الحال، الإقبال ضعيف جداً رغم أن المواد التي نبيعها حاجات يومية، معظم الزبائن تقتصر طلباتهم على الأساسيات الأكثر حاجة مثل الرز والبرغل والعدس والسكر، في حين أن مواد مثل البهارات والسمن وتجهيزات الحلويات باتت طلباتها نادرة، في الواقع حتى طريقة البيع تغيرت دفتر الديون ممتلئ بالأسماء، والبيع أصبح البيع بالأوقية بدل الكيلو”.
في الوقت ذاته يشكو التاجر من صعوبات أخرى تتعدى ضعف إقبال الزبائن، وهي تقلبات الأسعار، موضحاً:”يعتقد البعض مخطئاً أن زيادة سعر المادة هو ربح لنا وتوجه لنا سهام النقد بأننا السبب برفع الأسعار، والحال أننا الخاسر الأكبر من هذه التقلبات، بعض التجار خسروا رأس مالهم بسبب ذلك، لأننا نبيع بالسعر الذي يوفر لنا بعض الربح وعندما نضطر أن نشتري البديل نجد أن أسعاره زادت وذهبت حتى بالأرباح التي جنيناها”.
على كورنيش المدينة في الطرف الغربي الذي طالما عرف بصخبه وضجيجه لاسيما في المقاهي، غابت صورة أساسية من معالم المدينة الساحلية، إذ يبدو انشغال الناس بمتاعبهم اليومية واضحاً، بعدما هجرعدد كبير من رواد المطاعم والكافيهات مقاعدهم.
وفي ظل هذه الأوضاع تؤكد أم مازن المرأة الأربعينية التي يتوزع أبناءها الثلاثة بين تركيا وأوربا، أن عدداً كبيراً من الأهالي يعتمدون على حوالات أبناءهم المالية لإعانتهم، مضيفة أن عمل زوجها في محل صغير لبيع الأحذية، لا يوفر دخلاً يكفي مستلزمات الحياة الأساسية.
تؤكد المرأة الأربعينية في حديثها لمراسل “السورية نت”، أن البيوت في داخلها تحمل كثيراً من قصص المعاناة، وتقول إن كثيراً من أقاربها ومعارفها في محافظة اللاذقية “بالكاد يتدبرون شؤون حياتهم اليومية(..)سابقاً كانت الناس تساعد بعضها أكثر أما اليوم محيت الطبقة المتوسطة وبات معظم الناس يعانون العوز”.
مشاهد لم تكن مألوفة
على صعيد آخر يروي إبراهيم وهو طالب جامعي في اللاذقية بعضاً من “صور الشقاء التي يعانيها الموظفون والطلاب يومياً نتيجة سوء وضع المواصلات، فمثلاً يضطر طالب الجامعة للخروج من بيته منذ السادسة صباحاً، بسبب صعوبة توفر المواصلات”.
ويصف المشهد بالقول” نضطر لنركض خلف الميكروباصات وحضور المشاجرات بين الركاب منذ الصباح، وعندما يحالفنا الحظ نجلس خمسة أشخاص في المقعد الذي يجب أن يكون مخصصا لثلاثة أشخاص وبعد كل هذا يعلنون على وسائل الإعلام عن مخاطر كورونا”.
ترك عبد القادر ذو 14 عاماً قبل أشهر مدرسته لإعانة أبيه في تأمين مصاريف البيت، لم يتوجه الطفل بحسب ما يروي أحد أقرباءه لـ “السورية نت” إلى مهنة ليتعلمها كالحدادة أو النجارة أو ماشابه كما جرت العادة، بل يقف الصبي الصغير يومياً أمام فرن حي “الفيض” الشعبي في الطابور، ليشتري الخبز للعائلات التي لم يستطع أفرادها الوقوف في الطوابير مقابل بعض الإكراميات التي تعطى له.
ومثل عبد القادر يؤكد مسؤول “لجان التنسيق المحلية” في مدينة جبلة أبو بوسف جبلاوي لـ “السورية” نت أن “مهنة الطابور” باتت منتشرة بكثرة في المدينة على الأفران، ومحطات الوقود وجل العاملين بها من الأطفال والمراهقين.
ويضيف ذات المتحدث:”الأكثر من ذلك أننا بتنا نرى مشاهد لم نعهدها في المدينة مثل نساء وأطفال ينبشون حاويات القمامة، عربات يجرها أطفال للبحث عن البلاستيك، أعداد العاملين في مهنة التسول في ازدياد، أطفال مشردون في الشوارع والكثير من مشاهد الأسى التي باتت لا تطاق”.
ويلفت مسؤول “لجان التنسيق” إلى أن حالة التذمر “لم تعد تتناقل همساً بل حتى في المناطق التي تعتبر شديدة الولاء للنظام، هناك من يشتمون ليل نهار نتيجة اتجاه الأوضاع نحو مزيدٍ من السوء”.