في التسجيل المسرب لوزير خارجية إيران محمد جواد ظريف بعض من الجرأة وبعض من السذاجة.. فيه ما يمكن أن يصنف كأهم نقد للسياسة الايرانية في السنوات الماضية، يصدر عن مسؤول يستعد بعد أشهر للاحالة الى التقاعد، إن لم يتمكن منه غلاة النظام ويحرموه من تلك الفرصة.
هو أشبه برسالة وداع او بوصية للتاريخ بأنه لا يمكن لإيران أن تمضي قدماً في مسار الصراع والمواجهة، مع الغرب خاصة، من دون أن تمتلك الادوات اللازمة للصمود والبقاء، وإلا فإنها ستظل تدفع أثماناً باهظة لسياسات خاطئة، صاغها المتشددون ونفذها المعتدلون من أمثال ظريف ورئيسه حسن روحاني، على مضض، من دون إقتناع، بل بالاعتماد على الحس الوظيفي، الاداري، والالتزام ببيروقراطية الدولة الايرانية ومرشدها الديني الذي لا ينازع، وحرسها الثوري الذي لا يقاوم.
بعض الجرأة لا يتجلى فقط في تحطيم أسطورة قاسم سليماني، التي إرتقى بها النظام الى مرتبة القداسة، بل في المس المباشر بالمرشد علي خامنئي الذي لم يكن سليماني سوى ذراعه الاقوى والاقرب في حكم إيران وفي إدارة سياساتها الداخلية والخارجية.. التي يخلص ظريف الى أنها لم تتوافق مع المصالح الوطنية الايرانية، ولم تتجاوب مع نصائح ومطالب الدبلوماسية الايرانية، بل كانت تزدريها وتتجاهلها وتتعامل معها كساعي بريد لا أكثر، تحفظ التعليمات وتتلوها على مسامع المفاوضين الاميركيين والغربيين، من دون إجتهاد ولا تفكير.. ولا تناقش في أخطاء ايرانية فادحة إرتكبت في سوريا او في اليمن.
بعض السذاجة لا يظهر فقط من وقائع السجالات التي كان ظريف يخوضها مع سليماني، والتي كشفها بشكل لافت للنظر في التسجيل، بل في أن وزير خارجية إيران، أو أي دولة أخرى في العالم، يخطر في باله أن الدبلوماسية يمكن ان تكون أهم من الميدان، أو يمكن ان تتقدم عليه، حتى في ذروة التفاوض مع العدو والخصم؟ ألف باء الدبلوماسية ودرسها الأول هو أنها ترجمة لموازين القوى، للوقائع على الارض، التي لا يمكن للدبلوماسيين أن ينكروها أبداً، أو حتى أن يتمكنوا من تعديلها مهما بلغت مهاراتهم التفاوضية.
بالغَ الدبلوماسي الايراني في تقدير دوره، لا سيما في دولة مثل إيران الخمينية التي كانت ولا تزال عالقة على حافة الحروب والمواجهات المستمرة منذ العام 1979. كما بالغَ في تقدير موقع رئيسه حسن روحاني الذي كان ولا يزال يخوض حرباً باردة مع المرشد وموقعه، ومع الحرس ووظيفته..عبّر عنها ظريف بطريقة ظريفة، تنم عن الاستعداد للتسليم بالهزيمة، كما فعل إصلاحيون آخرون من قبل، حاولوا ضبط ولاية الفقيه المطلقة وإخضاعها للدستور ولسيادة الشعب.
مفاوضات فيينا النووية التي يحاول الاميركيون بشتى السبل هذه الايام، إنجاحها وتقديمها كهدية الى التيار الاصلاحي الايراني، ما زالت تصطدم بقرار المرشد الذي جزم في أن إيران يمكن ان تنتظر حتى ما بعد حزيران المقبل موعد الانتخابات الرئاسية الايرانية، التي يفترض أن تحيل روحاني وظريف الى التقاعد او الاقامة الجبرية، وأن تزيح المرشحين الاصلاحيين نهائياً من الطريق، وربما تقضي على حلمهم بالبقاء كتيار سياسي مؤثر.
ولعل في تسجيل ظريف أيضاً بعض من الاعتراف الضمني بأن هذا التيار، المتشوق دائماً للحوار والتفاهم مع أميركا قد تنحى عن تلك المهمة. فالدبلوماسي الايراني، كان طليعة هذا التيار ورمزه الابرز، نظراً الى دراسته وثقافته وتجربته الاميركية الطويلة، وكان يرى في الاتفاق مع أميركا فرصة لتغيير جذري طال انتظاره في بنية النظام الايراني..وهو تغيير يتوقع ان تستبعده الانتخابات الرئاسية المقبلة لأربع سنوات على الاقل.
يبقى أن ما قاله ظريف عن موقف روسيا المناهض للتفاهم مع أميركا، والمعرقل للتفاهم النووي، وعن موقف الصين الذي ينتهز فرص الاستفادة من أي خلاف مع أميركا، فإنه أشبه بنهاية قصة عشق افلاطوني، بين الدبلوماسي الايراني وبين الاميركيين.. لن تجد من يتجاوب معها في واشنطن، ولن تجد من يخشاها في موسكو او بكين.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت