يوم الخميس الفائت دشّن جبران باسيل الاقتراع في “الانتخابات السورية”، ومنح صوته لبشار الأسد بقوله: الانتخابات الرئاسية السورية وتثبيت الرئيس الأسد ستكونان عوامل مسرِّعة ومطمئنة ومشجِّعة لعودة النازحين. لم يكتفِ باسيل بالإشارة إلى الانتخابات، وهي وافية لأن النتيجة معروفة سلفاً، بل أصرّ على إعلان النتيجة تحت مسمى “تثبيت”! زيادة التوضيح هذه لا يسعنا ردّها إلى مجيء التصريح إثر مباحثاته في موسكو مع وزير الخارجية لافروف، ومن المرجح أن مضيفه لم يطلب منه هذا الموقف الفاقع ضمن مقايضة سياسية ما، مقايضة من المرجح أن يتمناها ويوحي بها في مواجهة خصومه اللبنانيين.
بصرف النظر عن علاقات موسكو الإقليمية الأوسع من تفصيل صغير مثل التيار الوطني، يبدو باسيل منسجماً جداً مع نفسه إذ يقدّم ما يرضي موسكو، ويفعل عن قناعة تامة. ليس من مكان أنسب لتقديم ذلك الخطاب الذي يمتزج فيه أسوأ ما في اليمين الشعبوي من معاداة “الأجانب” ومن العداء للديموقراطية، وقد رأينا كيف كانت المافيا الروسية الحاكمة الحليف المفضّل “إن لم تكن قِبلة” زعماء اليمين الشعبوي الغربي، وبرهنت على قدرة هائلة على استيعاب كل ما هو رثّ وسطحي ومعادٍ بطبيعته لقيم حقوق الإنسان.
الاحتساب على موجات اليمين الشعبوي أشبه بحلم يراود باسيل الباحث عن مكانة تتعدى حيزه الذي يضيق، الأهم هو وجه الشبه بينه وبين بشار الأسد المتقدم عليه بخطوات، ونجاح الثاني “تثبيته بالتعبير الباسيلي” يمنح الأول أملاً أكبر بوراثة عمّه الرئيس. بالمقارنة مع الماضي الغابر للعونية السياسي يسهل استخدام مصطلح “متلازمة ستوكهولم” لفهم علاقة باسيل وتياره بالأسد، لتفسير إنتقال “الضحية” إلى صف “جلادها” القديم، إلا أن الانتقال الذي يعبّر عنه باسيل أفضل تعبير يغري بتنحية الاختزال جراء الاكتفاء باستخدام المصطلح، وأيضاً لتجنب ما قد يثيره الأخير من تعاطف مع ضحية الأمس، أو اعتبارها بما وصلت إليه ضحية دائمة.
مرة أخرى يعبّر باسيل عن احتقاره الضحايا السوريين، ويسمّيهم “نازحين” بدل “لاجئين”، وينتزع منهم موقع الضحية بتصويرهم خطراً على لبنان، وفوق ذلك يعتبر “تثبيت” مَنْ هجّرهم حلاً لمشكلتهم. احتقار اللاجئين والحقيقة معاً يكتسب معنى إضافياً بحديثه عن حماية الأقليات في لبنان والمنطقة، حيث المقصود بالمنطقة هو المشرق “لبنان، سوريا، العراق، الأردن، فلسطين عندما تصبح دولة”. وفق منظوره الطائفي ذاته، هناك أغلبية سنية تشكل خطراً على وجود الأقليات أولاً، ثم على دورها في السياسة والإدارة والاقتصاد. بينما تكفي نظرة سريعة إلى الدول المعنية لمعرفة موقع “الغالبية المتوَّهمة المخيفة”، بدءاً من العراق الأشبه بحديقة خلفية لإيران، وصولاً إلى لبنان المحكوم بتحالف الحزب والتيار.
للتذكير، كان بشار الأسد، فور اندلاع الثورة، قد قدّم نفسه أيضاً حامياً للأقليات في المنطقة، لكن هذا ليس وجه التشابه الأهم بين الشخصين. الشبه الأول الذي سرعان ما يتوارد إلى الأذهان موقعهما كوريثين، بشار الذي تم توريثه بسلاسة تامة وباسيل الذي يتمنى اللحاق به، بعد أن اقتفى أثره بالوصول إلى موقع الوريث المنتظر متجاوزاً من لهم أولوية ضمن تجربة التيار، وحتى ضمن الدائرة العونية الضيقة.
يقدّم باسيل نفسه وريثاً شرعياً لعهد مؤسِّس، فهو بالمصاهرة استمرار بيولوجي لـ”بيّ الكل”، وهو بقوة التعطيل التي يملكها الحليف يضرب بسيف “العهد القوي”. كان حافظ الأسد من قبل قد استقر على لقب “الأب القائد”، بعد أن ابتدأ حقاً عهداً جديداً في سوريا، منقطعاً عن عهد الاستقلال الأول وحتى عن عهد انقلاب البعث الذي ينتمي إليه. في وسعنا القول أن عهد “بيّ الكل” هو عهد مؤسِّس أيضاً، ومعه انتهت آخر محاولات الاعتراض على التحوّل من خلال الرئيس السابق ميشال سليمان، وإذا كان ميشال سليمان رئيس التوافق، فإن خلَفه أتى بموجب مفهوم الغلَبة التي أتاحت لمسؤولين إيرانيين التباهي بالسيطرة على أربع عواصم عربية.
صحيح أن التيار وصل إلى كرسي الرئاسة على أكتاف الحليف، ولا يستطيع البقاء فيه إلا بإرادة الحزب ومن خلفه، وهذا وجه اختلاف بينه وبين تجربة الأسد الأب الذي انقلب على رفاقه واستفرد بالسلطة. إلا أن وجهاً ضعيفاً للشبه يأتي من المحاولة الانقلابية الفاشلة القديمة لعون، ومن أسباب فشلها مجيئها ضد ذاك الانقلابي المتمرس، ليأتي وجه أقوى للشبه بين الوريثين، فمعهما ستصبح السطوة الخاصة والاستقلالية ذكريات من ماضي الجيل السابق، ويغدو الطمع بالسلطة والتمسك بها مشروعاً في حد ذاته، بينما تُترك المشاريع الفعلية الخاصة بالدول للحلفاء الذين ييسرون الطريق إلى السلطة.
يستخدم باسيل كلمة “تثبيت” للإشارة إلى الإبقاء على بشار في السلطة، وعينه على تثبيته هو مرشحاً وحيداً لخلافة عمه في الرئاسة. تثبيت بشار، بعد كل جرائمه، فيه بشارة مفادها عدم مراعاة القوى المتحكمة بمشاعر الضحايا، أو ترضيتهم بالحد الأدنى. فائض القوة هذا سيكون لمصلحة طامحين “لا شركاء” في لبنان أيضاً، ومن دون مراعاة لحساسيات أو توازنات تقليدية صارت من الماضي، الماضي السابق على حافظ الأسد في سوريا والسابق على ميشال عون في لبنان.
يحق لباسيل النظر إلى صورة بشار ورؤية نفسه جديراً بالرئاسة، فهو بذل أقصى جهده ليصرّح بما يجعله مؤهلاً لهذه الوظيفة. ربما يقدّم بشار، من هذه الجهة، خدمة للكثير من الطامحين إلى الرئاسة، بقدر ما كان يُفترض أن يفقد شرعيته، وبقدر خضوعه للوصايات الخارجية وامتهانه منصبه إلى وظيفة ليست الأعلى واقعياً. لعله، بعبارة أخرى لا تبخسه حقه، مصدر إلهام. بل ربما يكون ما قبل بشار ليس كما بعده، من دون أن نكلّف أنفسنا في مناسبات لاحقة عناء الإسهاب في الحديث عن متلازمة الأسد.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت