تمنعنا ماكينة الأسد “الانتخابية” من اختبار فرضية أن يكون فوزه حقيقياً، وهذا يقتضي ذهاب السوريين الواقعين تحت سيطرته إلى مراكز الاقتراع، وانتخاب من يشاؤون بحرية حقيقية، وقبل ذلك فتح باب الترشيح بشكل جدي. لكن، ضمن الواقع الراهن، لنفترض تحقق قدر أفضل من “الديموقراطية”، يتنافس فيه بشار مع مرشح ما أو أكثر في عملية اقتراع غير مفبركة من ألفها إلى يائها، ألا يملك بشار الفرصة الأكبر بالفوز، وربما بنسبة جيدة من الأصوات؟
في حال تحقق قدر من الحرية لأولئك السوريين، ستكون هناك نسبة من الممتنعين عن التصويت، ونسبة من الذين “يجازفون” بانتخاب مرشح جديد، ونسبة نتوقع أن تكون الأعلى ممن سينتخبون بشار الأسد بملء إراداتهم ومن ضمنها نسبة ممن سيرونه قائداً للتحول الديموقراطي. بمعنى أن المعطيات الحالية ترجّح فوزه في انتخابات حرة كما كان سيحدث لو قرر إجراءها في مطلع عهده أو قبل آذار2011، أما أنه يرفض هذا الخيار فهو شأن آخر منفصل عن فرص فوزه، والرفض نابع من حسابات أبعد تتعلق برفض مبدئي وجوهري للديموقراطية.
يتجاهل السيناريو المفترض “عن عمد” الدعاوى المتعلقة بعدم شرعية الأسد وعدم شرعية الانتخابات، ويتجاهل الطعن بأحقيته في الترشح بناء على مختلف أنواع الجرائم الكبرى التي اقترفها. لمزيد من التوضيح؛ ألا يُعدّ مظلوم عبدي مرشحاً قوياً للفوز في انتخابات تجريها الإدارة الذاتية؟ وألا يعدّ الجولاني مرشحاً قوياً للفوز في انتخابات تجريها حكومته المؤقتة في إدلب؟
قد يُواجَه التوضيح الأخير باحتجاج على المقارنة، فهناك من سيحتج على مقارنة مظلوم عبدي ببشار والجولاني، وهناك من سيعترض على مقارنة الجولاني ببشار وعبدي، وهناك أنصار لبشار يرفضون مجرد مقارنته بأيٍّ كان. التوضيح لا يتوخى أصلاً المفاضلة بين الثلاثة، بل التأكيد على فرص فوز كل منهم في مكان سيطرته. في المقابل، نتوقع ألا يحظى أي منهم بنسبة ملحوظة من الأصوات في أماكن سيطرة الاثنين الآخرين، من دون أن يحمل هذا الاستنتاج اتهاماً بتزوير الانتخابات هنا أو هناك.
في مناطق سيطرة بشار، هناك بالتأكيد توجهات متباينة “غير معلنة”، فثمة من يؤيده بشخصه، وأيضاً من يؤيده كرمز لتنظيم عسكري مخابراتي، ولا تخلو تلك المناطق من معارضة تريد التخلص جذرياً منه ومما يمثّله. لكن، على صعيد غير منفصل، هناك فئة توسعت خلال السنوات الأخيرة مستعدة لـ”انتخابه” بالمقارنة مع السلطات المجاورة في إدلب أو الجزيرة. وسنعثر على فئات مشابهة في المناطق الأخرى، أي أولئك الذين لهم مختلف أنواع التحفظات أو الاعتراضات على الإدارة الذاتية لكنهم مستعدون لانتخاب مظلوم عبدي وعينهم على ما تبقى من سوريا التي يرفضون نموذجها، وأولئك الذين يتمنون الخلاص من الجولاني إلا أنهم مستعدون للبقاء تحت سيطرته وانتخابه عندما يقارن تفكيرهم بينه وبين بشار أو مظلوم عبدي.
ربما نوغل في ما لا يرضي غالبية السوريين من “معارضة ونظام”، فالطرفان يرفضان هذا التقسيم، بينما قد يقبل به أنصار الإدارة الذاتية مع الاحتفاظ باحتجاجهم على المقارنة بين مناطقها ومناطق سيطرة الأسد والجولاني والفصائل التابعة لتركيا. يقبل أنصار الإدارة الذاتية منطق التقسيم لأنه يسند فكرة اللامركزية كخيار لمستقبل سوريا، في حين يصر الأسد والمعارضة على مركزية الدولة، مع رغبة المعارضة في جعل النظام المركزي ديموقراطياً “حسبما تعلن”.
أنصار الإدارة الذاتية يرون فكرتهم عن اللامركزية متحققة فعلاً، ويقدّمون نموذجهم كنموذج لسوريا المستقبل، أما في الواقع فنحن إزاء إدارة ذاتية من دون مركز، أي أن الشطر الثاني من اللامركزية غير متحقق. هو التقسيم من دون إعلانه هدفاً، وكذلك هو الحال في باقي المناطق التي ينادي المسيطرون عليها بـ”وحدة وسيادة سوريا”، فهذا الشعار كاذب على المدى القصير ويتضمن حلم التوسع على مدى أبعد بالاستناد إلى تغيير مأمول في التوجهات الدولية.
كان كل طرف في “السوريات” الموجودة حالياً قد حصل على مناطق سيطرته بالقوة، لا باقتراع السكان الذين لم يسلموا من مختلف أنواع التعنيف والترهيب والتغيير الديموغرافي. لكن الآن، في صناديق الاقتراع، قد تحصل كل سلطة من سلطات الأمر الواقع على أصوات غالبية محكوميها، بمعنى أن نسبة غالبة من السكان قد تطبعت بما يلائم السلطة الحاكمة. بعبارة أخرى، لقد انقسمت سوريا فعلياً، من دون جرأة على إعلان ذلك، ومن دون أن نعتبره انقساماً مستداماً.
الانقسام يتعدى ما نشير إليه عادة كمناطق نفوذ، ومَن له تواصل مع سوريين من مختلف المناطق يدرك الافتراق الحاصل بينهم، ويستطيع من ليس له تواصل مباشر متابعة حسابات أبناء المناطق المختلفة على مواقع التواصل الاجتماعي ليدرك الهوة “أو الجدران السميكة” التي باتت تفصل السوريين في كل منطقة سيطرة عن سوريي المناطق الأخرى. الفوارق تجاوزت تلك الناجمة عن اختلاف في تفاصيل العيش المباشر، لتصبح فوراق في الوعي والتفكير، وليكون في وسعنا التحدث عن وعي مشترك “ولغة مشتركة” في كل منطقة، بل لعل البؤس في تفاصيل المعيشة هو المشترك الأعلى بين سكان مختلف المناطق، والذي لا يعوَّل عليه لبناء مشتركات في الوعي والتفكير.
ما يجمع السوريين في المناطق الثلاث، ويفرّقهم أيضاً، عدم رغبة معظمهم في زحزحة الحدود ما دام ذلك يتطلب مزيداً من العنف والدماء. يكاد يكون سكان كل منطقة مقتنعين بالحدود الحالية، بل هناك منهم مَن لا يريد التوسع بما قد يعنيه من ضم كتلة أخرى “مغايرة” من السكان، كتلة يعتقد أنها ستعكر الانسجام الديموغرافي الذي يعيشه، أو ستكون بمثابة ضغط إضافي على واقعه المعيشي المتردي. ذلك يكتمل بارتباطات كل طرف، من السلطة نزولاً إلى السكان، مع قوة خارجية تتضارب مصالحها مع القوى الدولية أو الإقليمية الأخرى، ليتناغم الافتراق في التوجهات الخارجية مع التقسيم الحاصل.
من المحتمل جداً “أو المرجّح” أن يفوز بشار بالرئاسة ضمن مناطق سيطرته، لا برئاسة سوريا بأكملها، وينبغي ألا يُستغرب حصوله على بعض أصوات السوريين في الخارج بملء إرادتهم، تحديداً ما يمكن تسميتهم بسوريي الإجازات الذين ينظرون إلى بقعة ما من سوريا كمكان لتمضية الإجازة وزيارة الأهل وليذهب ما تبقى إلى الجحيم. الفوز لم يعد معطوفاً على الانقسام القديم بين “موالين وثائرين”، ركنه الحالي انقسام آخر مختلف تغطي عليه المهازل الانتخابية التي يبتدعها الأسد وأساليبه المعتادة للتنكيل بالديموقراطية، ومن جهة أخرى تغطي عليه الدعاوى التي ترفض شرعية الانتخابات من دون أن تلحظ الجدران السميكة التي ارتفعت عالياً بين “السوريات الثلاث”.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت