من أنيسة إلى أسماء ومن الأخ إلى الأب

ما أن يُعلن عن صفقة أو حدث اقتصادي خاص بالسلطة وأعوانها حتى تتجه الأنظار إلى أسماء الأسد، تتحرى حضورها في الصفقة الجديدة بواسطة أحد من عائلتها “آل الأخرس” أو من أعوانها الذين يديرون شبكة مصالحها الاقتصادية. العديد من المحللين السياسيين تجاوز ما نعرفه عن صعود أسماء لتُطرح كبديل عن زوجها، وفي الحد الأدنى تُصوَّر كسيدة متحكمة بالقصر ومَن فيه وبالقرارات الكبرى الصادرة عنه، طبعاً ضمن الحيز المتروك من الوصيين الروسي والإيراني. ابحثْ عن أسماء؛ لعله العنوان الأكثر تواتراً وتشويقاً منذ وفاة حماتها أنيسة مخلوف قبل خمس سنوات.

بالطبع لم تُخترع أسماء الأخرس وتأثيرها، ولا بد لتأثيرها أن يكون فيه ما هو موروث من حضور وتأثير أنيسة مخلوف اللذين بقيا بعيداً عن الأضواء والبهرجة الإعلامية، ولا بد أن يكون أيضاً على حساب شقيق زوجها ماهر الأسد. ذلك لا يستدعي أن تُعزى إليها قدرات متميزة من الدهاء، فهي ليست دليلة التي احتالت على شمشون وجرّدته من مكمن قوته، ولا هي “كما قد يراها متضررون من صعودها” دليلة المحتالة في سيرة “دليلة والزيبق”. الحدود التي يرسمها لها الوضع في سوريا لن تتسع أو تضيق بحسب مهاراتها، فالواقع لا يسمح لها بأن تتجاوز كونها زوجة رئيس وأماً لرئيس، إذا سُمح دولياً بالشق الثاني.

فاعلية نساء القصر حاضرة في الوجدان العام تاريخياً، وفيها ما فيها من التشويق والإثارة والصواب، وهي تبرز عادة وبقوة عندما يكون هناك تغير أساسي في تركيبة الحكم، التغير الذي يمكن وصفه بالانتقال من حكم الأخ إلى حكم الأب. هو، بعبارة أخرى، الانتقال من التوريث الأفقي إلى العمودي. سوريا الآن مع أسماء الأسد في الانتقال للمرة الثانية من الأفقي إلى العمودي، المرة الأولى كانت في منتصف الثمانينات مع إقصاء رفعت الأسد.

بالعودة إلى الوراء، يحضر اسم ناعسة، أم الشقيقين حافظ ورفعت. الحادثة الأشهر المرتبطة باسمها هي ما يروى عن طلب حافظ منها المجيء إلى بيت رفعت لشدة تأثيرها عليه، أثناء ما عُرف بمحاولة انقلابه على أخيه المريض، ثم ذهاب حافظ رفقة ابنه باسل إلى بيت رفعت ليُحسم الخلاف “بحضور الأم ومشاركتها” بإنهاء تمرد رفعت، ثم ليبادر حافظ إلى إقصائه وإبعاده إلى فرنسا. حتى ذلك الوقت كان لناعسة دور الأم الذي يجمع الأخوين، وكان ذلك عهد “الأخ” حافظ الأسد بمشاركة أساسية من “الأخ” رفعت الذي يُنظر إليه كوريث مؤكد.

في عهد حافظ “الأخ” كان اللقب الدارج هو “أبو سليمان”، حيث تكنّى “بما لا يخلو من مغزى” باسم جده، في حين غاب نهائياً اسم أبيه المتوفى علي، بخلاف ناعسة التي يُحكى عن تأثيرها على أبنائها. حينئذ لم يكن الابن باسل معروفاً من قبل السوريين، بينما كان رفعت “القائد أبو دريد” يتكنى باسم ابنه. بإشهار باسل ولياً للعهد، سترث أنيسة من حماتها مكانة أم الرئيس، فوق موقعها الذي لم يكن بارزاً إعلامياً كزوجة رئيس، وفي واحد من أهم مظاهر الانتقال ستحصل عائلتها “آل مخلوف” على مكانة في السلطة لم تكن متاحة بوجود رفعت كوريث. لقد انتقل ثقل السلطة من عائلة ناعسة إلى أسرة حافظ، وهو وصف يأخذ في الاعتبار تغييب الأبناء لأبيهم علي الأسد.

كانت الألقاب التي تُغدق على حافظ الأسد كثيرة جداً ومتعددة، إلا أن واحداً منها سيتم التركيز عليه مع إقصاء رفعت والشروع في تقديم الوريث الابن هو لقب “الأب القائد”. لم يعد حافظ أخاً أكبر، لقد صار الأب، والذي تمتد أبوته طوعاً أو قسراً لتشمل السوريين. للأخ “كما نعلم” أخوة قد ينافسونه، وحتى إذا كانوا أصغر منه فهم ليسوا طوع سلطته كالأبناء، ذلك عهد انتهى بمدلولاته العائلية الضيقة، ومدلولاته على مستوى البلاد.

بوجود العديد من الأبناء، الذكور تحديداً، ستعود الأسرة لتتوسع، سنكون أمام العائلة من جديد، وأمام احتمالات التوريث الأفقي مرة أخرى. هكذا سيعود حكم الأخ ثانية، منذ كان باسل مرشحاً للرئاسة وإلى جانبه شقيقه ماهر، لتذكّر صورة الاثنين معاً بحافظ ورفعت، وحينها كان بشار خارج الحسابات المنصبة أساساً على إمساك الوريثين بالمخابرات والجيش. لكن بفضل وفاة باسل سيحتل مكانه، ليستقر ثقل الحلقة الأضيق للسلطة ضمن العائلة، مضافاً إليها الشقيق المقرَّب لأنيسة وأبنائه حتى وفاتها.

التناوب بين حكم الأخ وحكم الأب، أو بين التوريث الأفقي والعمودي، هو سمة سلطات التوريث عموماً منذ العهود الإمبراطورية، والتوريث الأفقي يشغل مساحة هي الأقل زمنياً، وغالباً ما تلعب المصادفة دورها كأن يكون الحاكم بلا أولاد ذكور. ربما كان التوريث الأفقي لحكم آل سعود من الأطول زمنياً بما يزيد عن ستة عقود، وهو انتهى إلى التوريث العمودي، وكذلك هي حالات التوريث الأخرى في المنطقة، فالملك الأردني حسين قبل وفاته حرم شقيقه من وراثة العرش ليجعلها بين ابنيه، وعاود الملك الحالي الانتقال من التوريث الأفقي إلى العمودي بحرمان أخيه من ولاية العهد. تاريخياً لم يكن هذا التحول يمر دائماً بيسر، ومن الأمثلة الشهيرة صراع الشقيقين الأمين والمأمون بعد وفاة والدهما هارون الرشيد.

في ختام مسابقة محلية، في أيلول 2019، ظهر كريم بشار الأسد “ابن الخمسة عشر عاماً آنذاك” مرتدياً الزي العسكري، وكأنه في محاكاة مبكرة جداً لعمه ماهر ولعم أبيه رفعت! أي، إذا سارت الرياح كالمعتاد وكما تشتهي أسماء، فستكون بعد سنوات أماً لشقيقين “حافظ وكريم” يتنازعان على العرش، وفي أقوى حال لها ستكون قادرة على تأجيل النزاع حتى وفاتها، وعلى فرض تقاسم سلمي للسلطة والثروة قد لا يغيب عنه أفراد من عائلتها “الأخرس”. تشغل أسماء الصدارة الإعلامية لتغيير روتيني دوري في نظام التوريث، وهذا أقصى طموح لها، فالعديد من الأنظمة الديموقراطية العتيدة لم يصل بعد إلى وجود امرأة في سدة الرئاسة. أما في أنظمة التوريث فتبرز النساء في فترة التحول، وعندما يتطلب احتكار السلطة والثورة إقصاءَ الشركاء الأقربين، كتأكيد على ضرورة أن تضيق النواة الصلبة للسلطة كلما اتسعت لأسباب بيولوجية.

المصدر المدن


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا