من إدلب إلى درعا: الانتصار بالتقسيط

حسب واحد من الأخبار الواردة من أحياء درعا المحاصرة، هدد جنرال روسي-شيشاني يدعى أسد الله الأهالي باحتلال درعا بواسطة الميليشيات الإيرانية، إذا لم يستسلموا وينفذوا ما هو مطلوب منهم. الخبر غريب لسببين؛ أولهما أن سلطة الأسد ومن خلفها “ضامن التسوية” الروسي لا يفصحان عادة عن القوة العسكرية التي ستتولى الاقتحام أو تلك التي ستتولى السيطرة على المكان والتنكيل بالسكان بعد اقتحامه، وثانيهما أن التهديد بالميليشيات الإيرانية يفترض اكتسابها سمعة كبعبع يتم التخويف به بالمقارنة مع “وداعة” قوات الأسد وشبيحته، وهذا كما نعلم ينتقص من وحشية تلك القوات والشبيحة بما لا ترتضيه قياداتها.

يبقى وجه آخر لتبرير صحة الخبر السابق؛ أن يكون التهديد بالميليشيات الإيرانية موجهاً إلى تل أبيب، وأيضاً إلى واشنطن التي أعادت درعا إلى سيطرة الأسد قبل ثلاث سنوات، الأمر الذي يرتّب عليها مسؤولية أدبية إزاء الأهالي. إن مجرد الانقضاض النهائي على التسوية يسيء إلى سمعة واشنطن التي تخلت عن جبهة حوران ضمن عملية أوسع لإعادة تقسيم مناطق النفوذ شملت الغوطة الشرقية وعفرين، ومُنحت فيها درعا وضعاً خاصاً جنّبها الانتقام، وجنّبها الخضوع التام، وقد رأينا كيف تمكن الأهالي من فرض إرادتهم بعدم المشاركة في انتخابات بشار، الأمر الذي يُنظر إليه كأحد محفزات الحصار الحالي.

تبقى الإرادة الروسية هي العامل الأهم في الحصار وما سيليه، فالتهديد بإدخال الميليشيات الإيرانية يستدرج تفاهمات جديدة مع واشنطن وتل أبيب، تنقلب فيها موسكو على التفاهمات السابقة محققة انتصاراً معنوياً. وفي العدول عن التفاهمات السابقة لصالح موسكو وبشار رسالةٌ لحلفاء واشنطن في الإدارة الذاتية، بحيث لا يطمئنون إلى عدم تخلي واشنطن عنهم، ولا يثقون بأنهم عندما تقرر الانسحاب ستضمن لهم تسوية مناسبة ومستدامة. أما حسابات واشنطن فهي مختلفة، وقد لا تمانع في أن يحقق بوتين انتصاراً صغيراً في درعا، ولن تؤثر عليها الرسالة الموجهة إلى الإدارة الذاتية، وليست المرة الأولى التي تخذل فيها واشنطن حلفاء غير أساسيين من دون أن يحول سلوكها دون اكتساب حلفاء جدد بل سعي جهات عديدة للوصول إلى تلك المرتبة.

مع حصار درعا، لم يتوقف التصعيد العسكري في إدلب، من قبل قوات الأسد والطيران الروسي. المعلن، كذريعة للهجوم الجديد، أن موسكو تريد تطبيق تفاهمات سوتشي الخاصة بفتح طريق إم4، وبوجود منطقة منزوعة من السلاح على جانبيه. يُفهم من التعبير الأخير منطقة منزوعة من السلاح في جهة الفصائل المدعومة من أنقرة، لأن موسكو لم تلتزم من قبل بنزع السلاح من الجانبين، وانقلبت على التفاهمات بذرائع مختلفة لتقضم جزءاً من محافظة إدلب وتبرم تفاهمات جديدة قبل سنة وثلاثة شهور. بعبارة أخرى، تريد موسكو السيطرة على شريط جديد من الأراضي التي تسيطر عليها تلك الفصائل، الأراضي التي ضاقت أصلاً بالعدد الضخم من اللاجئين.

في إدلب أيضاً تسعى موسكو إلى تحقيق انتصار صغير محدود، لا لأنها لا تملك القدرة على شنّ معركة أضخم وبأهداف أوسع. لا تتحاشى موسكو “كما يُشاع أحياناً” المعركة الكبرى لأن جبهة النصرة ستستبسل في الدفاع عن معقلها الأخير، فآخر ما يكترث به بوتين وقوع مجزرة ضخمة من قوات الأسد وعناصر النصرة. حسابات المعركة الكبرى تتعلق أولاً وأخيراً بما ستتسبب به من تدفق مباغت وضخم للاجئين لا تستطيع أنقرة تحمله، ولا يريد الغرب تحمّل تبعاته المستقبلية. ذلك ما يدركه بوتين جيداً، ويفضّل الاحتفاظ بورقة التهديد بدل التفريط بها.

اكتساب شريط جديد في إدلب لن يكون نهاية المطاف، إنه دفعة من دفعات في سعي بوتين إلى السيطرة والانتصار بالتقسيط، فهو ليس مستعجلاً للاصطدام بسقف انتصاراته السورية. والقضم على دفعات يسهل تقبله أمريكياً وأوروبياً ما دام يتسبب بتدفق محدود للاجئين تستطيع مناطق السيطرة التركية الأخرى استيعابهم، وهو لا يحرج أنقرة بانسحاب مذلّ من منطقة نفوذ كبرى بعد أن قدّمت نفسها كضامن لتفاهمات خفض التصعيد المتلاحقة.

ما يخفف من الإحراج أن أنقرة لم تطرح يوماً أمام الجمهور التركي إدلب كقضية تمس أمنها القومي، بخلاف المناطق التي تتواجد فيها قوات قسد، أو تلك التي انتزعت فيها القوات التركية السيطرة من قسد. أي أن التخلي عن إدلب، في أقصى الاحتمالات، قضية مرتبطة تركياً بموضوع اللاجئين أيضاً، ولا يُتوقع أن تؤثر سلباً على العلاقات الروسية-التركية التي باتت متشابكة ومتشعبة في العديد من القضايا الإقليمية من ليبيا إلى ناغورني كاراباخ، وقد لا تكون أفغانستان قريباً “بعد الانسحاب الأمريكي” خارج الاهتمام المشترك والتعاون بين الجانبين. على هذا الصعيد، وبينما تُقصف مناطق في إدلب بشكل عنيف، يلفت الانتباه ما قاله قبل يومين المتحدث باسم الرئاسة الروسية ديمتري بيسكوف في حوار بثته قناة روسيا1، إذ وصف العلاقات الروسية-التركية بأنها مثال يُحتذى للشراكة بين موسكو ودولة عضو في حلف الناتو.

ميدانياً، ليس هناك ما يردع موسكو عن اقتحام درعا أو إدلب، فالقوة العسكرية جاهزة، والطيران الروسي معتاد على تنفيذ سياسة الأرض المحروقة قبل الاقتحامات. لكن نصراً واحداً أخيراً لن يقدّم لبوتين فائدة على المدى البعيد، لذا يريد انتصارات محدودة وبالتقسيط مع استحقاقات سياسية صغيرة ومحدودة، قد يكون الآن التمديد لدخول المساعدات الأممية واحداً منها. إطالة أمد “الانتصارات” يتيح لبوتين تصوير قواته في سوريا كأنها لا تتوقف عن التقدم، ويؤخر لحظة الحقيقة عندما يستنفذ المساحة التي لا تقع ضمن الخطوط الحمراء لتركيا أو الولايات المتحدة.

ربما يكون من مصلحة واشنطن وأنقرة أيضاً ألا يصطدم رأس بوتين بسقف انتصاراته، فيظهر محرجاً داخلياً بعجزه أمامهما، بمعنى أن يكون هناك تواطؤ ضمني معه في سياسته هذه. وربما سنبقى بين الحين والآخر إزاء هذا النوع من التصعيد والانتصارات، بحيث تسحب موسكو ببطء شديد من الرصيد المسموح طالما لم يحن موعد الحل أو موعد الانقلاب الجذري على خريطة النفوذ الحالية.

المصدر المدن


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا