ليس بالإمكان عزل إجراءات “هيئة تحرير الشام” بحق التنظيمات الجهادية عن العوامل الخارجية، أكانت مرتبطة بتركيا وعلاقاتها ومصالحها المتشعبة من جهة، أو بمحاولة إرضاء الولايات المتحدة واقناعها برفع اسم الهيئة عن قائمة المنظمات الإرهابية. ورغم أن مسؤولاً أميركياً ألمح أخيراً في مقابلة صحافية الى عدم وجود نية لدى واشنطن لرفع الاسم من اللائحة قريباً، إلا أن الموضوع ليس مستحيلاً رغم كونه صعب المنال. واشنطن فاوضت حركة “طالبان”، وتُفاوض النظام الإيراني في فيينا، ويتردد أن في الإدارة الأميركية من يُطالب بتصحيح هذا “الخطأ” لتيسير مسار المساعدات الإنسانية الى الشمال السوري.
في المقابل، لم يتوان رئيس الهيئة أبو محمد الجولاني في الترويج لشخصه ولتنظيمه بصفته جماعة سورية محلية لا تعتمد على المهاجرين، وأنها تحالفت وائتلفت آنياً مع جماعات جهادية في ظرف صعب من المواجهة مع النظام السوري. من خلال احتواء الجماعات الجهادية، يتبنى الجولاني استراتيجية حذقة مبنية أولاً على إيجاد تبريرات “شرعية” أو أخلاقية في مواجهة هذه القوى، قبل الانقضاض عليها، كي لا يخسر معركة الرأي العام الجهادي داخل تنظيمه نفسه وبين حلفائه القريبين (التركستان أو الأويغور مثلاً)، وحتى لا يظهر كمن يطعن المقاتلين الأجانب في الظهر بعدما جاؤوا لنصرة السوريين، كما يحلو لهم القول. وثانياً، وعلى أنقاض الشق الأول، يخوض الجولاني من خلال أنصاره معركة علاقات عامة في الساحة الدولية للظهور كمُحارب للإرهاب وكضمانة للاستقرار في الشمال السوري. يقرأ الجولاني هنا من كتاب نظام الأسد في العلاقات الدولية، مع فارق اللحية وربطة العنق.
المعركة مع تنظيم “حراس الدين” الذي اختفى تقريباً من الساحة السورية نتيجة حملات “هيئة تحرير الشام” ضده، قتالاً واعتقالاً وملاحقات، أُديرت بهذه العقلية وببطء رغم تكلفة ذلك، ليس فقط على الجولاني نفسه عبر خرق وقف النار وعدم التزام تعليماته، ولكن أيضاً على رعاته الأتراك وتفاهماتهم مع الجانب الروسي (وأيضاً على علاقات الجولاني مع الجانب التركي).
بدلاً من الإسراع في المعركة والانقضاض على “حراس الدين”، خاضت الهيئة مواجهة رأي عام، مع اصدار تبريرات لأعمالها. كان هناك افتراض بأن الهيئة ستخسر العديد من مقاتليها ومناصريها بعد هذه المواجهة، لكن ذلك لم يحدث نتيجة الإدارة الهادئة غالباً للمواجهة.
واليوم، في قرار تصفية “أجناد الشام” بقيادة مسلم الشيشاني، القائد الجهادي الكاريزماتي للشيشان، لافت أن تبرير الهيئة يدور حول جريمة أحد العناصر. الشيشاني يدعي في بيانه العاطفي بأن هذا العنصر لم يعد منضوياً في صفوف الجماعة. ومسلم الشيشاني محق في حديثه عن عدم عدالة القرار بإنهاء جماعة بأسرها نتيجة ارتكابات عنصر سابق فيها. هو يعلم بأن القرار بتصفية الجماعة الجهادية الشيشانية الأكثر خطورة على الأمن الروسي، أكبر من الجولاني نفسه، ولا بد أن مصدره هو “القلعة” الشاسعة في ضاحية باغليجة بأنقرة حيث مقر المخابرات التركية (أم آي تي).
قد يخيل للجولاني وأنصاره للحظة أن هذه المعركة محلية، وثمنها هو إعادة تعويم “الهيئة” لدى الولايات المتحدة والدول الأوروبية، أو ربما إرساء بعض الاستقرار في الشمال السوري من خلال توحيد البندقية. إلا أن الواقع مغاير.
حسابات اللاعبين الصغار فيها “آمال” باحتمال إعادة التعويم دولياً وفك الحصار أو القيود، أو ربما وعد ببعض الاستقرار (وهل يستقيم الاستقرار بوجود النظام السوري والقوات الروسية؟). لكن لدى اللاعبين الكبار حسابات مغايرة، ولا تحوي آمالاً أو حتى وعوداً، بل تندرج في اطار صفقات واضحة المعالم والبنود المتبادلة.
مسلم الشيشاني، مثله مثل “الحزب الإسلامي التركستاني”، من الحجم الخاضع للحسابات الدولية، إذ يُمثل تهديداً للأمن الروسي، وله ثمن في حسابات موسكو. وأنقرة تعرف ذلك. عملياً، نحن أمام مستويين من القرار، الأول أشبه بمسرحية ظاهرة للعيان، وفيها الجولاني ومعركة العلاقات العامة والتبريرات الشرعية والجهادية. ولكن خلف ستار هذا المشهد، لا بد من تفاهم دولي بين الكبار على تصفية دور لاعب من هذا المستوى، واللافت أن ذلك يحدث بالتزامن مع لقاء “نور سلطان” (أستانة) بين تركيا وايران وروسيا حول سوريا. لهذه الدول تفاهمات بالجملة في الاجتماعات المُغلقة على الملفات (سوريا وليبيا وأفغانستان وغيرها)، وليس على المؤتمرين المحليين سوى التنفيذ، وغالباً من دون طرح أسئلة.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت