أثار انسحاب القوات الأميركية من أفغانستان، والإعلان عن انسحاب جميع القوات القتالية الأميركية من العراق بحلول نهاية العام الجاري، أسئلة حول وجود القوات الأميركية في سوريا، وإمكان أن يطولها أمر الانسحاب وتغادر المناطق التي توجد فيها.
ولا شك في أن الانسحاب الأميركي من أفغانستان وإنهاء المهمّة القتاليّة في العراق لا يُعبّر عن سذاجةٍ سيّاسيّة، كونه يدخل في سياق تنفيذ الرئيس الأميركي جو بايدن وعوده الانتخابية بالانسحاب من التّورّط العسكري في الحروب البعيدة والطويلة، وعليه فإن تكهنات وممكنات أي انسحاب وشيك من سوريا قد تدخل في السياق ذاته.
وبصرف النظر عن أن الانسحاب الأميركي من أفغانستان تركها أمام الزحف السريع لمقاتلي حركة طالبان وفتح الباب على مصراعيه أمام دخولها في حرب أهلية، وأن الانسحاب الأميركي من العراق جرى تسويقه ضمن إطار ما يسمى “الحوار الاستراتيجي بين الولايات المتحدة والعراق”، إلا أن خيارات الولايات المتحدة في كل من العراق وسوريا، لا تخرج عما تسوقه مراكز البحوث والدراسات الأميركية، بوصفها أفضل الخيارات المتاحة أمام واشنطن، والتي تتمثل في انسحاب القوات القتالية الأميركية مع الحفاظ على قوة صغيرة من المستشارين والمدربين، بما يحافظ على النفوذ الأميركي فيهما، ويساعد على تخفيف النفوذ الإيراني والروسي فيهما، لذلك من المستبعد في المدى المنظور أن تحدث تغييرات جذرية على الوجود العسكري الأميركي في كل من العراق وسوريا، خاصة وأن الانسحاب العسكري الأميركي الكامل من العراق يطرح مشكلة تأمين الدعم للقوات الأميركية الموجودة في سوريا المجاورة. وبناء عليه، يجادل مسؤولون أميركيون بأن استراتيجية بلادهم في سوريا لن تتغير مثلما تغيرت في أفغانستان والعراق، وذلك في سياق نفيهم للتكهنات والتحليلات التي ترجح انسحاباً عسكريا أميركياً وشيكاً من سوريا.
ويعتبر بعض المسؤولين في الإدارة الأميركية أن أفغانستان والعراق وسوريا تمثل ثلاث قضايا أو ملفات منفصلة تماماً عن بعضها البعض، ولا ينبغي الخلط بينها، لذلك لا يرون إمكانية حدوث أي تغييرات مهمة في المرحلة الراهنة على مهمة القوات الأميركية في سوريا وعلى الغاية من وجودها، معتبرين أن ذلك يدخل في إطار استراتيجية إدارة الرئيس بايدن في سوريا.
غير أن الحديث عن استراتيجية الرئيس بايدن في سوريا يقودنا ليس فقط إلى تلمّس جانبها العسكري المتمثل بالتصدي لتنظيم “داعش”، بل إلى معرفة جوانبها السياسية والأمنية وحسابات المصالح وسواها، إذ أن إدارة الرئيس بايدن ومنذ وصولها إلى الحكم في البيت الأبيض لم تبدِ سوى مواقف تتسم بالترقب والحذر حيال القضية السورية، حيث لم يعين بايدن مبعوثاً خاصاً له إلى سوريا، وفرض عقوبات شبه رمزية على ثمانية سجون لنظام الأسد، ولم تبلور إدارته رؤية أميركية متكاملة حيال القضية السورية، بمعنى أنها لم تتوصل بعد إلى استراتيجية جديدة لسبل معالجتها، واختارت فقط المدخل الإنساني عبر التفاهم مع الساسة الروس من أجل تمديد التفويض الأممي لإيصال المساعدات الإنسانية إلى ملايين السوريين في الشمال السوري، بينما لم تقم بأي حراك حيال الهجمات المتكررة التي تشنها قوات نظام الأسد والقوات الروسية على المدنيين في مناطق محافظ إدلب، وحيال ما يتعرض له أهالي درعا من قصف وهجمات قوات نظام الأسد وميليشيات نظام الملالي الإيراني إلى جانب فرضها حصاراً شاملاً لتجويعهم وتهجيرهم قسرياً من مناطقهم.
ويثير تعامل الولايات المتحدة مع القضية السورية أسئلة عديدة حول الكيفيات التي اتبعتها الإدارات المتعاقبة على البيت الأبيض مع تطورات الأوضاع في سوريا منذ انطلاق الثورة في منتصف آذار/ مارس 2011، ومع البيانات والقرارات الدولية والأممية التي صدرت بشأنها، والتي لم تخرج عن أولويات تلك الإدارات في منطقة الشرق الأوسط، التي لا تعتبر الملف السوري من بينهما مقارنة بالملفات الأخرى في المنطقة، لذلك ارتهن التعامل الأميركي مع القضية السورية إلى حدّ كبير بتغير الإدارات والرؤساء الأميركيين، لكنها لم تستند إلى استراتيجية واضحة المعالم، ولا نهجاً معيناً، بل كانت مواقفها تتسم بعدم الاكتراث واللامبالاة، والسعي إلى إدارة الأزمة وليس حلها.
ولعل الأولوية الوحيدة التي بنت عليها الولايات المتحدة استراتيجيتها في سوريا هي الحرب على تنظيم الدولة “داعش”، لذلك تحالفت في سبيلها مع قوى الأمر الواقع ممثلة بميليشيات وحدات حماية الشعب الكردية، وقوات سوريا الديمقراطية. ومع ذلك لم يتردد الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، عن الإعلان مرتين على الأقل عن سحب القوات الأميركية من شمال شرقي سوريا، الأولى كانت في 20 من ديسمبر/ كانون الأول 2018، والثانية في 9 من أكتوبر/ تشرين الأول 2019، لكنه تراجع أمام ضغوط المؤسسات الأميركية وخاصة البنتاغون كي يعلن عن الاحتفاظ بوجود عسكري أميركي محدود في سوريا، وذلك من أجل حماية حقول ومنشآت النفط، ومنع وصول تنظيم داعش إليها، لكن إدارة بايدن تريد التركيز على ربط السياسة الأميركية في سوريا بهزيمة داعش فقط، وعدم ربطها بالمنشآت النفطية السورية أو بمواجهة النفوذ الإيراني في سوريا.
إذاً الاستراتيجية الأميركية في المدى المنظور ستركز على بقاء قوات عسكرية أميركية في الشمال الشرقي من سوريا، لذلك أرسلت الإدارة الأميركية إشارات واضحة إلى الساسة الروس في هذا الصدد، وكذلك إلى قادة ميليشيات الأمر الواقع في المنطقة، لكن التساؤل سيطول نوع هذا الوجود العسكري الذي تنحصر مهمته في استمرار محاربة تنظيم داعش بالتعاون مع ميليشيات قوات سوريا الديمقراطية، وبالتالي من غير المرجح أن تقوم الولايات المتحدة في المدى القريب بسحب وشيك لقواتها العسكرية من سوريا كما حصل في أفغانستان ولا بإنهاء مهامها القتالية كما هو مقرر في العراق.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت