واشنطن والأسد.. الإغراء بدل الضغط
في أثناء كتابة هذه السطور، من المتوقع أن تكون إجراءات استقبال الوفد اللبناني رفيع المستوى، على الحدود السورية – اللبنانية، تجري على قدم وساق، في تحولٍ يستدعي التوقف عنده ملياً. فهذه الزيارة إلى دمشق، تتعلق بما هو أبعد من صفقة غاز وكهرباء إقليمية تمرّ عبر سوريا. ذلك أنها تتم بضوء أخضر أميركي، يمثّل أكبر إجراء تنفيذي تقوم به واشنطن في عهد إدارة الرئيس جو بايدن حتى الآن، في سياق تغيير تكتيات سياستها تجاه نظام الأسد، وحليفه الروسي. تغيير قد يعني تحول واشنطن من تكتيك الضغط إلى تكتيك الإغراء بغية احتواء الروس ونظام الأسد ومزاحمة طهران في “هلالها الشيعي”.
إذ لا تمثّل صفقة الغاز والكهرباء الإقليمية، التي ستربط مجدداً، مصر بالأردن وسوريا ولبنان، مخالفةً مباشرةً لقانون “قيصر”، فقط. بل أبعد من ذلك، هي تمثّل مساهمة أميركية في إعادة إعمار سوريا، وإن بصورة طفيفة ومحدودة. فالأميركيون يفاوضون البنك الدولي الآن، بغية تمرير قرض يسمح بتمويل الصفقة، بما تتضمنها من إصلاح لخطوط الكهرباء وأنابيب الغاز المعطلة، التي تمر عبر الأراضي السورية. ووفق المعطيات المتوافرة حتى الآن تلقى نظام الأسد موافقة مبدئية على مطالبه بأن يحصل على حصّة من الغاز والكهرباء، التي ستعبر أراضيه إلى لبنان. وهكذا يستخدم الأميركيون تكتيك الإغراء للنظام السوري، لأول مرة منذ عشر سنوات.
يشكّل هذا التحول في التكتيك الأميركي تجاه نظام الأسد، عودة إلى سياسات الإغراء والقوة الناعمة التي استخدمتها واشنطن بعيد سقوط الاتحاد السوفيتي، مطلع التسعينات حيال دول أوروبا الشرقية. وقد أفلحت تلك السياسات حينها في جذب تلك الدول لتدور في الفلك الأميركي. بطبيعة الحال تختلف موازين القوى الدولية الآن. فروسيا التي خرجت من عباءة الاتحاد السوفيتي مهلهلةً، تصبو للتفاهم مع الغرب بأي ثمن ليست هي روسيا اليوم. لكن ذلك سبب أدعى لدفع واشنطن للعودة إلى استراتيجية الإغراء والقوة الناعمة، التي اعتمدتها مطلع التسعينات.
الأكاديمي الأميركي البارز، جوزيف ناي الابن، صاحب مصطلح “القوة الناعمة” وأبرز منظريها في واشنطن كتب مؤخراً عن تصدع القوة الناعمة الأميركية بفعل أخطاء سياسة إدارة دونالد ترامب، التي اعتمدت استراتيجية الضغط العسكري والاقتصادي على الخصوم والحلفاء في آن، بصورة دفعت بعض أبرز شركاء واشنطن إلى النفور منها. الأمر الذي قوّض على نطاق واسع، قدرة واشنطن على التأثير في الكثير من الملفات الدولية بتكاليف منخفضة.
ومع الانسحاب الأميركي من أفغانستان، تطوي واشنطن صفحة الاستخدام المفرط للقوة الصلبة. وتجد نفسها في حاجة ملحة لإعادة ترميم قوتها الناعمة. وتواجه تحديّ الصعود الصيني، بوصفه أخطر التحديات النوعية، مقابل تراجع تحدّي الإرهاب ليصبح في تقييم معظم المنظّرين الأميركيين خطراً ثانوياً. وبهذا الصدد يحذّر جوزيف ناي الابن من ترك روسيا فريسة للتقارب مع الصين. داعياً إلى جذبها واحتوائها. وبقدر ما يحظى ناي بتأثير في صنّاع القرار الأميركي خاصة الديمقراطيون منهم، بقدر ما تتناغم دعواته تلك مع وجهة النظر السائدة لدى شريحة واسعة من الأكاديميين ومراكز الدراسات الأميركية، ذات الأثر البارز في صنع القرار بواشنطن.
جذب روسيا لا يستهدف الصين فقط وفق المنظور الأميركي، بل يستهدف إيران أيضاً. ويراهن على خشية موسكو من أن تتحرر طهران من الحاجة لغطائها الدولي، بصورة تسمح لها بأن تضرّ بالمصالح الروسية في منطقة الشرق الأوسط، وفي القلب منها بالنسبة للروس سوريا. وتتعلق تلك الخشية بصورة كبيرة، بمشروع “الغاز الإسلامي” الإيراني، الذي يستهدف مد خطوط للغاز من طهران عبر العراق إلى سوريا. بصورة تجعل تمرير الغاز الإيراني إلى أوروبا، لو تحقق مشروع “الغاز الإسلامي”، مسألة وقت لا أكثر. وذلك كان أحد أبرز دوافع موسكو للتدخل عسكرياً في سوريا، بغية منع هذا المشروع، وأية مشاريع أخرى شبيهة به، من التحقق، كي تبقى أوروبا رهينة الغاز الروسي، كما هو الحال الآن.
وهكذا تبحث واشنطن عن تقاطع للمصالح يجمعها بموسكو. ومن ذلك تخفيف الضغط الاقتصادي عن نظام الأسد. يأتي ذلك قبيل جولة جديدة مرتقبة من الحوار الروسي – الأميركي بخصوص الملف السوري. في محاولة للبناء على تجربة “خطوة مقابل خطوة” التي اتبعتها واشنطن مع موسكو قبيل الاتفاق على تمديد قرار المساعدات الإنسانية “عبر الحدود” و”عبر الخطوط” إلى سوريا. والذي مهدت له واشنطن بعدم إصدار أي حزمة عقوبات جديدة ضد نظام الأسد، ضمن قانون “قيصر”، منذ وصول إدارة بايدن إلى السلطة. ورغم أن واشنطن فرضت عقوبات على سجون ومسؤولين أمنيين تابعين للنظام، في نهاية تموز/يوليو الفائت. إلا أنها عقوبات جاءت خارج سياق قانون “قيصر”. وتحمل بعداً سياسياً، أكثر منه اقتصادياً.
وبخلاف ما أُشيع عن أن صفقة الغاز المصري والكهرباء الأردنية، طُرحت أميركياً كردٍ على سعي حزب الله لاستيراد النفط من إيران، تشير مصادر متقاطعة إلى أن هذه الصفقة تُدرس أميركياً منذ عدة أشهر، مع الإشارة إلى أن لبنان يفاوض مصر على صفقة الغاز منذ سنة، وكانت العقبة الرئيسية، هي العقوبات الأميركية بموجب قانون قيصر، التي تعرقل تمرير الغاز عبر سوريا. وهي العقبة التي أزالتها واشنطن أخيراً. وقد تكون سفن النفط الإيرانية التي لوّح بها أمين عام حزب الله، حسن نصر الله، قد سرّعت التحرك الأميركي لدعم تنفيذ صفقة الغاز المصري والكهرباء الأردنية. فواشنطن تريد استباق رفع مرتقب للعقوبات الأميركية عن إيران، بموجب إعادة الإحياء المُنتظر للاتفاق النووي، الأمر الذي قد يعزز من قدرات إيران المالية على ترسيخ نفوذها الاقتصادي في البلدان المُدرجة ضمن “هلالها الشيعي”.
وهكذا يبدو الأميركيون، وكأنهم يريدون مزاحمة طهران في مناطق نفوذها، وجذب القوى المحلية الفاعلة في تلك المناطق، إلى جانبهم، عبر الإغراء، بدل الضغط. وتراهن واشنطن في ذلك، على شركائها الإقليميين في المنطقة، كالأردن ومصر ودول الخليج، بعد أن قررت أخيراً، الاستماع إلى نصائحهم، باعتماد استراتيجية الانفتاح على النظام السوري بدل الضغط عليه.
لا يعني ما سبق أن واشنطن بصدد تقديم تنازلات كبرى في موقفها من النظام. بل ستعتمد على استراتيجية “خطوة مقابل خطوة”، التي طُرحت على طاولة الرئيس بايدن، من جانب خبراء إدارته، منذ بداية العام الجاري. وذلك يعني أن علينا توقع خطوات جديدة من الانفتاح الأميركي التدريجي على النظام، وعلى مصالح حليفه الروسي في سوريا. الأمر الذي يتطلب من المعارضة السورية، ومؤسساتها الرسمية، أن تعدّ العدّة للتعامل مع واقع إقليمي جديد، وسياسة أميركية مختلفة.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت