قبل عشرة أيام أعلن ما يزيد عن ستين عضواً في “المؤتمر الوطني السوري لاستعادة السيادة والقرار” انسحابهم من التكتل المعارض الجديد، بعد أسبوعين من انسحاب عدد أقل اعتراضاً على نتائج المؤتمر وانتخاباته، المؤتمر الذي عقد في جنيف يومي 20-21 آب2021. المنسحبون الجدد أكدوا ما سبق أن أُثير في موجة الانسحابات الأولى، خاصة لجهة الإشارة إلى “ممارسات ملتوية تريد الهيمنة على المؤتمر ومخرجاته”، و”تنسف مبدأ الديموقراطية وأصول العمل السياسي الجاد والفعال”.
كانت الجبهة الوطنية الديموقراطية “جود” قد نالت قسطاً أوفر من الانتباه على أرضية وثائقها الأولى التي بدت متقدمة بالنسبة لما يُعرف بمعارضة الداخل، من حيث الإشارة إلى تغيير النظام برموزه وأركانه وإنشاء هيئة حكم انتقالي كاملة الصلاحيات التنفيذية، وأيضاً لما حملته الدعوة إلى انعقاد المؤتمر التأسيسي في دمشق. بعد منع المخابرات انعقاد المؤتمر في آذار الماضي، عقدت الجبهة مؤتمرها افتراضياً في أيار، وهذه المرة مع غياب الاهتمام الذي لم يتجاوز دائرة ضيقة من متابعي تفاصيل الشأن السوري، و”الفتور” وجد طريقه إلى بيانها الصادر بعد انتخاب هيئتها التنفيذية، وكأن البيان الجديد يتخفف من “جرأة” التأسيس.
خلال ثلاثة شهور تماماً، تم تأسيس “مؤتمر” وطني معارض و”جبهة” ديموقراطية معارضة، لكن هذا ليس بالخبر الذي يلفت انتباه السوريين، ولا حتى انتباه الشريحة الأوسع من الذين يرون أنفسهم في جهة المعارضة. ربما، فقط في أوساط محدودة تمتهن العمل المعارض، يمكن العثور على مهتمين بحكم المنافسة، ويمكن العثور على أجوبة “من دون طرحها حتى” عن كواليس تنظيمات المعارضة الجديدة، وعن ارتباطاتها غير المعلنة وظروف تأسيسها غير المعلنة أيضاً، ومن المتحكم بخيوط اللعبة خلف تلك الكواليس…. إلخ.
لا ثقة في ما يعلنه التنظيم الجديد، فدائماً الحقيقة إما تحت الطاولة أو وراء الكواليس. تالياً، لن تكون مهمة وثائق التنظيم وطروحاته، خاصة مع التشابه المعمم بين ما تطرحه كافة تنظيمات المعارضة، وإذا قيس التشابه النظري بالخصومات العملية “ومنها خصومات تتفوق على العداء للأسد” فهذا القياس يعزز من عدم الثقة بما هو نظري، وبما يُقال عموماً لصالح التفتيش عما لا يُقال، ولماذا لا يُراد قوله، ولصالح مَن أو لصالح أية جهة.
إن أي تنظيم معارض سوف يبدأ، شاء أصحابه أم أبوا، من عتبة عدم الثقة المبنية على تاريخ من التنظيمات السابقة للمعارضة. قد لا تتساوى التنظيمات السابقة في مساوئها، إلا أن أفضلها “إن وجد” لم يكن مؤثراً بحيث يخفف من مناخ عدم الثقة المعمم، وهو ليس فقط وليد سنوات الثورة والتنظيمات التي أُسست خلالها. البدء من “تحت الصفر ثقة” يفرض مكابدة أشد، لم ينجح في امتحانها أي تنظيم حتى الآن، باستثناء مجموعات هامشية اكتسبت درجة الصفر في الثقة مع درجة الصفر في التأثير والتطور والانتشار!
الصورة النموذجية لحياة تنظيم معارض تكاد تكون على الشكل التالي: تلتقي مجموعة من المتقاربين أيديولوجياً وفكرياً، ولا يندر أن يتناسى هؤلاء تجربة سابقة مشتركة فاشلة جمعتهم، أو أن يتعالوا على جراح متبادلة جراء خلافاتهم السابقة، وسيكون من حسن الحظ إذا وجد أعضاء جدد طيبي النوايا لا يشاطرونهم ذلك الإرث. مدفوعين بحماس البدايات “كل مرة”، يستعيد المؤسسون تلك القيم الوطنية والديموقراطية النبيلة، ويفكرون طويلاً طويلاً في ما تنبغي إضافته ليكون التأسيس الجديد متمايزاً عن غيره، وعن التأسيس السابق الذي جمع بعضاً منهم. قد لا تخلو مرحلة الإعداد من التكتيكات والألاعيب التي لا تغيب عن أولئك المعارضين المعتّقين، إلا أنهم سيتجاهلونها مؤقتاً، وقد يتجاهلها البعض منهم رغم أن انتخابات المؤتمر التأسيسي لم تأتِ على هواه. ثم ستأتي الفرصة مع القيادة “التي انتُخبت أصلاً بطريقة مشبوهة”، ليعلن الناقمون دفعة واحدة انحرافَها عن المبادئ المؤسِّسة وعن مجيئها بألاعيب تخالف التقاليد الديموقراطية الحقة. ولا يندر أن ينشق التنظيم الجديد، وينسب كل طرف لنفسه الأحقية بالاسم فيكون لدينا تنظيمان “ولاحقاً أكثر” بالاسم نفسه.
التكاثر بالانقسام؛ هذا واحد من علل المعارضة السابقة على الثورة، إذ كان المعارضون أنفسهم “بلا زيادة أو نقصان يُعتد بهما” يزيدون في عدد التنظيمات جراء الانشقاقات التي عكست غياب الديموقراطية في التنظيم الأم، ومعها غياب المرونة القابلة بالتطور الفكري والمفاهيمي. مع انطلاقها، أتى هؤلاء إلى الثورة، بانقساماتهم السابقة وعداواتهم، والجمود الفكري لبعضهم الذي يظن أن الثورة استمرار لـ”نضاله” القديم. كان على الثورة أن تواجه سلطة متوحشة، بينما تقفز إلى صدارة تمثيلها السياسي هنا وهناك “في الداخل والخارج” معارضة تحمل أمراض الأيديولوجيات المفوّتة والأمراض المتسللة من سلطة الاستبداد، لتنقلها إلى المجال الجديد بدل “الخبرة” التي يفترض أن تساند بها شباب الثورة.
كانت الثورة مناسبة لدخول الجيل الجديد في السياسة، فتولى معارضون قدماء إفساد الجو بطرد النسبة العظمى من أولئك الشباب وبإفساد البعض منهم وتوريثه العلل السابقة، بل توريثه حتى العداوات التي نشبت عندما لم يكن قد ولد بعد! مَن أفسدوا المناخ العام ينتمون إلى مختلف أطياف المعارضة، مَن بقي منهم ضمن الأطر القديمة ومَن انتمى إلى الهياكل المستحدثة، وهو دور لا يقل تأثيراً عما يُنسب من تأثير سلبي للدول أو لأجهزة المخابرات التي تتعاطى مع تنظيمات المعارضة، أيضاً بمختلف أطيافها وأماكن تواجدها، مع التنويه بأن العلاقة بالخارج ليست نقيصة ما لم تصبح من موقع التبعية.
الطريف أنه جراء إفساد المناخ العام وانعدام الثقة في كافة تنظيمات المعارضة تبرز الحاجة إلى معارضة جديدة مختلفة، إلى معارضة بديلة تقدّم نفسها كنموذج محترم للسوريين وللخارج، ومعها يتقدم من يظنون أنفسهم خارج الفشل الذي ساهموا فيه. بعبارة أخرى، وعطفاً على السمعة السيئة القديمة، سيطرح الجديد نفسه بديلاً سواء صرح بذلك أم لم يصرّح. ثم سرعان ما سيكرر الجديد قديمه، فهو كما أسلفنا يقتفي خطاه السابقة، ويستخدم حجارته القديمة ذاتها متوهماً بناء جديد بها، ليستقر في النهاية كإضافة أو تنويع ضمن انعدام الثقة السائد، وكثقل إضافي فوق اليأس من القديم ومن الجديد معاً.
ما سبق كله ليس قدراً للمعارضة أو للسوريين، وسبل الخروج منه ليست مستحيلة أو عصية. نظرياً، يستطيع حتى معظم أولئك الذين صنعوا الفشل مراراً أن يشير إلى أسبابه وطرق الخروج من دوامته، إلا أن هذه المعرفة تُترك خارجاً عند الاجتماع لتجسيدها بالفعل.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت