تنحصر واقعية الأنظمة العربية، في توجهها للتطبيع مع عصابة الأسد، في مقولة أن الأسد باق ولم يسقط، لكن هذا النمط المشوّه من الواقعية، يلغي نصف المعادلة القائمة في سوريا، ذلك أن الأسد وفي سبيل بقائه قتل مئات آلاف السوريين، وأخفى مثلهم، وشرد نصف سكان سوريا. وهذه الواقعية أكثر صلابة من واقعية بقائه، وخاصة وأن بقاءه صنعه له الروس والإيرانيون وسيبقى رهينة اتجاهات رياح مصالحهم، في ظروف يتغير فيها العالم سريعاً.
تتخذ الأنظمة العربية من هزيمة السوريين ذريعة لعودة علاقتهم مع النظام، لكنها تعرف أن عملية غش كبيرة أدت إلى هذه النتيجة المأساوية. فالسوريون انهزموا بعد أن سحقتهم آلة عسكرية جبارة لا قِبل لشعب، تم حكمه بالحديد والنار لعقود طويلة، بمواجهتها، ولا قِبل لمجتمع بنى حياته بما يشبه حفر الجبال بالإبرة؛ برؤية ما بناه ينهار تحت وابل النيران لمجرد أنه طالب بكرامته، ولا قدرة له على تحالف مافياوي يمتد من موسكو إلى طهران؛ يملك كل صنوف أسلحة القتل، مع وجود مجتمع دولي اقتصرت استجابته على خطب رنانة في الأمم المتحدة وليس لها رصيد حقيقي على أرض الواقع.
في لقائهما الأخير بجنيف، في منصف أيار/ مايو الماضي، حاول فلاديمير بوتين جاهداً تزيين صورة الأسد لجو بايدن، فقال له إن الأسد ذو خبرة في محاربة الإسلاميين وسيريحكم من مقارعتهم، والأسد على استعداد لمنح أمريكا مزايا استثمارية في سوريا في عملية الإعمار، باختصار فإن مضمون ما قاله بوتين لبايدن، أن الأسد سيكون كلباً في مزرعتك فقط إرضى عنه، وبوتين متأكد من ذلك لأنه خبِر مدى ذل الأسد تجاه من يمد له حبل الإنقاذ من أوضاعه المأساوية، إلا أن بايدن، ورغم براغماتيته الأمريكية، لم يستطع بلع هذا الأمر، واكتفى بجملتين مكثفتين تختصران قول الكثير: “لا مكان في العالم لزعماء مثل الأسد” قتل شعبه بالكيماوي، و”التعالمل مع الأسد لم يعد جائزاً أخلاقياً”.
وهذه بالفعل حقيقة بشار الأسد، ساقط بكل المقاييس، لكن السؤال اللاهث اللاهف الذي يطرحه حتى الطفل الصغير، هو إذا كان بايدن الأمريكي يأنف من التعاطي مع الأسد، كيف يمكن لعربي، شاهد عمليات ذبح السوريين وانتهاكهم، القبول بالتعامل مع الأسد؟ ثم لماذا هذا الاندفاع باتجاه تعويم الأسد وإعادة تأهيله؟ هل هي المصالح الاقتصادية مثلاً؟ الواقع يقول إن سوريا باتت طاردة لأي فرص اقتصادية محتملة بعد أن تم تفريغها من كفاءاتها، وتدمير قطاعات إنتاجها!
أم هل هو الخوف؟ من ماذا؟! بشار لا قدرة له على مواجهة جيوش، كما أن لا إيران ولا روسيا تستطيع ضرب خصوم الأسد الخارجيين، ولا يستطيع الأسد ضرب العرب لا بالبراميل ولا بالكيماوي، ولا أن يخفي أبناءهم في سجونه أو يغتصب نساءهم كما فعل بالسوريين، ليس بسبب كرم أخلاقه، بل لأن هناك حدوداً لقدرته. وبالتالي إذا كان لا المصلحة الاقتصادية هي الدافع الحقيقي ولا الخوف والبحث عن السلامة، فلماذا الجري لمصافحة مجرم، ليس من الجائز أخلاقياً التعامل معه؟على العكس من ذلك، تضع العلاقة مع الأسد الأنظمة العربية على محك المخاطر، ليس فقط لأن تجارة المخدرات قد تماسست تحت سلطة الأسد، ولا لأن العقلية الانتقامية هي المسيطرة، بل لأن هذا النظام أصبح مندمجا ضمن شبكة ترى أن انتصارها وسيادتها الإقليمية لن تقوم إلا بتدمير مجتمعات تلك الدول وخلق حالة من الفوضى فيها، وهو لن ينسى أن هذه الدول وقفت في يوم من الأيام ضده، وسينظر لأي عملية تطبيع معه على أنها فرصة لتصدير كميات أكبر من المخدرات لمجتمعات هذه الدول، وفرصة أيضاً لإرسال الزعران بتأشيرة دخول رسمية، للعبث في أمن المجتمعات العربية، انتقاما وحسداً.
يتوهم البعض أن سوريا ستعود دولة قوية، يكفي فقط لتحقيق ذلك إعادة دمجها في المحيط العربي. والواقع أن سوريا بلد منهار حتى قبل الثورة وتطورات الأحداث اللاحقة، فمؤشرات انهيارها بدأت منذ ثمانينيات القرن الماضي، ولم تكن الثورة سوى محاولة لإنقاذ هذا البلد من الانهيار التام، محاولة للبحث عن خيارات تنقذ السفينة الغارقة، والتي كان من ضمنها إبعاد النخبة الحاكمة الفاسدة. اليوم بعد عشر سنوات تأكدت رؤية السوريين الذين ثاروا، لكن مع قتل مليون وتشريد أكثر من نصف السوريين.
العين العربية ترى أن الأسد باق لذا من الواقعية استعادة العلاقة معه، لكن العقل يغفل عن حقيقة تخرز العين، وهي أن ما هو باق في سوريا هو مجرد هيكل لاحتلال روسي إيراني، والباقي مجرد حشو كلام.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت