من حيث الشكل، جاءت زيارة وزير خارجية الأسد يوم الاثنين إلى طهران وكأنها تتويج سياسي لحراك اقتصادي مكثف بين الجانبين في الآونة الأخيرة، وكان فيصل المقداد قد اتصل بنظيره وزير الخارجية الإيراني في الثامن عشر من الشهر الفائت، وقيل أن الاتصال بحث “فضلاً عن الأوضاع السياسية ذات الاهتمام المشترك” التعاونَ بين البلدين اقتصادياً وسياحياً، ثم ليشير في مؤتمر صحافي عقده أمس مع نظيره إلى أن العلاقات الاقتصادية كانت محور لقائه مع الرئيس الإيراني! قبل أسبوع، افتتح وزير الصناعة الإيراني معرضاً للمنتجات الإيراني في مدينة المعارض جنوب دمشق، وفي الوقت نفسه انطلق مؤتمر الملتقى الاستثماري الإيراني-السوري، ليعقب زيارته الإعلان عن تأسيس بنك إيراني-سوري يتبع لمنظمة تنمية التجارة الإيرانية.
وعندما يبحث المقداد مع نظيره الإيراني التعاون السياحي فإن أول وآخر ما يتبادر إلى الذهن هي وفود الحجيج الإيراني إلى المقامات الموجودة في سوريا، إلا إذا كان أفراد الميليشيات التابعة لفيلق القدس يدخلون سوريا بوصفهم سواحاً. قد يُعدّ وفق الأخبار الأخيرة تهريبُ الأسلحة الإيرانية في شاحنات الخضار نشاطاً اقتصادياً، لكن ضجة ثارت تحسباً من نوايا إيرانية تهدف إلى الاستيلاء على معامل القطاع الخاص السوري، بشرائها على خلفية الأزمة الاقتصادية، أو بدمج عمليتي الشراء والإكراه معاً على منوال عمليات الاستيلاء المشابهة التي قام ويقوم بها الأسد. وكانت غرفة صناعة دمشق قد استبقت الحراك الإيراني بالطلب من الصناعيين موافاتها بأوضاع المنشآت المتضررة أو المتعثرة، من أجل عرضها على المستثمرين.
قبل شهر، كانت ضجة أخف قد ثارت على خلفية تجدد النشاط الإيراني بشراء العقارات في محيط دمشق الجنوبي، وصولاً إلى مطارها الدولي، ما أدخل إلى التداول تعبير “الضاحية الجنوبية”. عمليات الشراء الجديدة توسعت على جانبي طريق المطار، بعدما كانت قد بدأت بنجاح ساحق في الجهة الغربية منه، أي من جهة بلدة السيدة زينب. فالحرس الثوري سيطر على البلدة ومحيطها، والصحافة الإيرانية أشادت منذ سنة بالجهود الإيرانية التي أثمرت عن “إقناع” الجهات السورية المسؤولة بتحويل منطقة “قبر الست” إلى “مدينة السيدة زينب”، بعد أن شهد محيط الضريح توسعاً ضخماً جداً لا يتناسب مع أكبر عدد متوقع للزوار، ومع تغيير شبه كلي للبنية الديموغرافية لسكان “منطقة القبر” وسكان البلدة المجاورة المسماة على اسم السيدة زينب.
التمدد إلى الضفة الأخرى لطريق المطار بات متعدد الأشكال، فهناك المنشآت الصناعية في الغوطة الشرقية، وهي بمعظمها قد تضررت إلى حد كبير بفعل القصف الذي نالته المنطقة طوال سنوات. هناك أيضاً العقارات السكنية، ومنها المتضرر بالقصف ولا يملك أصحابه الأموال اللازمة للترميم أو إعادة البناء، ومنها ما صار مهجوراً لأسباب عديدة بينها اضطرار أصحابها إلى الهرب من البلاد. أراضي الغوطة الزراعية لم تعد في منأى عن الأطماع الإيرانية، وفي البعض منها على الأقل الذي تم شراؤه وُضعت مفارز عسكرية من الميليشيات، قد يتكفل وجودها بترهيب الجيران وإجبارهم على بيع أراضيهم بأسعار تتهاود مع كل عملية توسع جديدة.
الحديث هو عن عمليات شراء واسعة مستمرة، طالت حتى على الأقل مساكن وأراضٍ في بلدات “المليحة” و”المرج” و”حتيتة التركمان” و”دير العصافير” و”مزارع شبعا” و”زبدين”. لتضاف إلى نظيراتها في الجهة الأخرى من طريق المطار، وفي الوسط بين الجهتين تبدو “جرمانا” مستثناة حتى الآن من الأطماع الإيرانية، لا لسبب سوى غلبة الدروز فيها، وانصراف النشاط الإيراني في الوسط الدرزي جنوباً إلى مدينة السويداء. من هناك أيضاً، من سهل حوران وجبله، تتوالى الأخبار عن نشاط إيراني في السويداء ودرعا، وأشارت تقارير استخباراتية إسرائيلية إلى وصول الحقائب الإيرانية المملوءة بالدولارات إلى بعض وجهاء السويداء ونظرائهم في درعا لتأثيرهم في اجتذاب أنصار محليين لطهران.
في أواخر أغسطس الماضي، نشر موقع اندبندنت بنسخته الفارسية تقريراً يرصد بعض عمليات شراء العقارات، ومساهمة حزب الله فيها ضمن محاولة زيادة نفوذه في المناطق الحدودية. يشير التقرير إلى شراء أكثر من 370 قطعة أرض في محيط الزبداني، وما لا يقل عن 505 قطع من الأرض في منطقة الطفيل. على الحدود العراقية شرقاً، استطاعت الميليشيات تعزيز حضورها وسيطرتها بعمليات شراء مركّبة تتضمن التشيع، من خلال العلاقة مع رؤساء العشائر الذي أعلن واحد منهم تغيير اسم عشيرته لتصبح “البقّارة الحسينية”. في الجنوب أيضاً، يُقال أن بلدة “قرفا” التابعة لدرعا، بلدة رستم غزالي التي تولى قمع ثورتها بنفسه، قد تحوّل الذين بقوا من سكانها من المذهب السني إلى الشيعي تحت ضغط الفاقة.
إذاً، تسارعَ تدفق حقائب الدولارات الإيرانية في الشهور الأخيرة، رغم آثار العقوبات الخانقة على الاقتصاد الإيراني. بل يبدو كأن طهران تسابق الوقت لشراء مناطق شاسعة متصلة من الأراضي السورية، أكثرها حيوية وأهمية ما قد يصبح “ضاحية دمشق الجنوبية” بما تحمله التسمية في دلالاتها اللبنانية، يليها في الأهمية التمركز في الجنوب السوري على غرار الجنوب اللبناني، من دون البدء بمظاهر عسكرية تستفز رداً إسرائيلياً.
في كل الأحوال، لا يُنتظَر أن يحقق التبشير الشيعي الإيراني نجاحات مؤثرة في التوزع المذهبي في سوريا، والتعويل هو على توطين شيعة غير سوريين في المناطق التي يُستحوَذ عليها. الطريف في المؤتمر الصحافي أمس للمقداد “مع نظيره الإيراني” اتهامه الولايات المتحدة بنقل المئات من الإرهابيين الأفغان إلى سوريا! بينما ما نشط على الأرض حقاً هي عمليات نقل الشيعة الأفغان “الهزارة” لتوطينهم في سوريا، وإذا كانت طهران قد تمكنت أيام الوجود الأمريكي في أفغانستان من تجنيد واستقدام عشرات ألوف الهزارة فإن عودة حكم طالبان “السُنية”، مع تدهور الوضع المعيشي لعموم الأفغان، قد يجعل أرقاماً مضاعفة منهم ضحايا المخطط الإيراني في سوريا وأدوات له.
يبقى أن يُتوَّج ذلك كله باتفاق نووي يفرج عن الأرصدة ومبيعات النفط، ويتغاضى عن التوسع الإيراني، مع عدم التوصل إلى حل يعيد اللاجئين السوريين من دول الجوار على الأقل. الهدف لا يتوقف عند إنشاء ضاحية جنوبية لدمشق، حيث الحافز الطائفي التاريخي موجود هنا بقوة، بل يمتد الطموح لتكون دمشق بأكملها ضاحية شمالية للمركز الجديد، وحيث “سماحة سيد” لا نعرف من يكون يأنف من مجرد المقارنة بينه وبين ذلك النائم في عسل الرئاسة.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت