صحا مجلس الشعب السوري من رقدة أهل الكهف وانتفض نخوة وشرفاً، فأصدر بياناً سياسياً يراق على جوانبه الدم، صوناً للشرف الرفيع من الأذى بعد أحقاب من النوم، نقلته وكالات أنباء عالمية، جاء فيه:
“اللواء السليب جزء لا يتجزأ من التراب السوري، والسوريون سيــبذلون الغالي والنفيس حتى يعود الحق السـليب إلى أصحابه، و(نحن) مصرّون على استعادة كامل الأراضي المغــتــصبة وتحقيق النصر المؤزر بهمة رجال الجيش العربي السوري”.
إنَّ خطاب النظام هو الخطاب الخشبي البالي نفسه في الزمن الخالي، وهو خشب غير قابل للحرق والتدفئة والنجارة طبعاً، ويتصف بأنه خطاب بديع، وأول البدائع البيانية هي أن الخطاب نووي وذرّي، فقد استعيرت خصائص الذّرة لّلواء السليب فهو: “جزء لا يتجزأ”، وهذا تعريف فيزيائي خاص بالذّرة صاحبة الالكترونات والبروتونات.
وفي الخطاب وليس في الذّرة، حِكم وأمثال ووعد ووعيد تدور حول نواتها، ومنزلة بين المنزلتين، وهي أنَّ السوريين سيبذلون الغالي والنفيس، وكنت أحفظها الغالي والرخيص، فالغالي هو النفيس وهو تكرار لا جدوى منه، وكان الصواب أن يقولوا: الغالي والبالي.
ولا أعرف ما هو الغالي الذي سيبذلونه من أجل استعادة اللواء السليخ، فليس لديهم أغلى من البطاقة الذكية. ويلاحظ أن الجولان في أدبيات النظام ليس له صفة مثل “السليب”، فهو مرتفعات الجولان.
يقول البيان السليب إنهم مصرّون أي ملحّون.. المصرّون صريرَ مفاصل الباب الصدئ، في الشتاء، هم أعضاء مجلس الشعب المستترون وراء كمامات نكران الذات، رغبة في ثواب الآخرة وصدقة السر، وقد انتقلوا من جهاد الدفع إلى جهاد الطلب.. المجلس الشجاع الذي صحا من نومه لم يجرؤ على ذكر الجولان، ولا عربستان، أو طنب الصغرى وطنب الكبرى، فأوحى بها من بعيد بعبارة “كامل الأراضي المغتصبة”.
ومن الملاحظات أن البيان السليب أمل بتحقيق النصر الذي هو دائماً في مواضيع الإنشاء مؤزّر، بهمة رجال الجيش العربي السوري. ومؤزّر: مُفعَّل من الإزار، أما همة رجال الجيش العربي السوري، فمعلومة للكافة والخاصة، وتشهد لها البراميل والشحاحيط وحملات التعفيش. والبيان فيه ظلمان واضحان: ظلم للنساء، فالجيش فيه لبؤات ظلمن ظلماً شديداً فلم يذكرن وحرمن الميراث، وهذا لا يجوز في عصر حقوق النساء، وظلم للسيد الرئيس، فأين همته وأين بأسه وقد كان كل نصر مؤزر ينسب له؟ فلم يُذكر الرئيس الرمز ذكراً أو رمزاً أو من وراء حجاب، مع أن البيانات الرسمية تبدأ به عادة، فهو المبتدأ والخبر والفعل والفاعل في الإعلام السوري.
وُصف اللواء بالسليب وليس بالمحتل، لأنه ضُم إلى تركيا بعد انتهاء السلطنة العثمانية بمعاهدات دولية، فسُلب، وكانت الدولة العثمانية قد سلبت اسمها وخلافتها وأرضها ولغتها المكتوبة بحروف القرآن العربية. وكنت أجد أحياناً إعلاميين من النظام على الفضائيات السورية يسخرون من تركيا لأن الترك يصفون في التسميات عمدة الولاية بالوالي، وهو لقب عربي كان حرياً بالنظام الاحتفاء به والثناء عليه. فالترك الذين يُتّهمون بتتريك العرب لم يغيروا وصف اللقب العربي واحتفظوا به، لكن النظام وجده قديماً ورجعياً، أما النظام التقدمي البعثي فيسمي عمدة المدينة بالمحافظ. المحافظ تقدمي، والوالي رجعي. الاسم عند النظام هو الذي يحدد خصائص التقدمية والرجعية، وليس الصفة.
تذكرتْ تقارير إخبارية معاهدة أضنة التي وقعها حافظ الأسد، الذي كان يؤوي عبد الله أوجلان لابتزاز تركيا، فتوعده الرئيس سليمان ديميريل 1998 أشد الوعيد، وهدده بقلع عين سوريا، فسارع حافظ الأسد مذعوراً من قلع عينه؛ إلى رئيس مصر حسني مبارك كي يتشفع له لدى تركيا حتى لا يصير أعور، فوقّع معها اتفاقية أضنة طرد بموجبها أوجلان وتنازل عن لواء إسكندرون في الملحق الثالث من المعاهدة، ومنح الحق لتركيا بالتوغل خمسة كيلومترات داخل سوريا حين اللزوم في الملحق الرابع.
أغضب بيان مجلس الشعب السوري الطارئ الخارجية التركية، فوصفته بغير القانوني، واعتبرته وقحاً، وجاء الرد من متحدث غير وزير الخارجية، وعادة ما يوكل أمر الرد على هذه الهوامش إلى المعارضة التركية القومية، فالمعارضة في تركيا لها أدوار سياسية وتشريعية أحياناً.
ليس من عادة مجلس الشعب السوري أن يتحدث في شؤون السياسة الخارجية، فهو مجلس خدمات منزلية وتشريعية، ونادي احتفالات ونشيد وتصفيق، وأحياناً لطم وندب على الراحلين. أما سبب غضب تركيا، فليس خوفاً من جيش أبي شحاطة، فثمة تهديد إيراني أو روسي، أو كليهما، أُوكل إلى مجلس الشعب السوري لدغدغة تركيا به، والقول إنكم إن تحاربوننا في أوكرانيا وليبيا وأذربيجان فسنحاربكم في لواء إسكندرون بالإضافة إلى إدلب.
كان الأسد الأب قد قال يومها في شأن الجولان حكمته العربية الخالدة، مفرقاً بين الشحم والورم بعبارة مسجوعة: “إن حربنا هي حرب وجود لا حرب حدود”. فحرب الوجود حسب كلامه هي مع إسرائيل، وخلاف الحدود الأهلي هو مع تركيا. وقد تذكرنا صحوة مجلس الشعب السوري بقول شهير لمحمود درويش: “ندعو لأندلس إن حوصرت حلب”، وبقول الأقيشر الأسدي:
سَريعٌ إِلى اِبنِ العَمِّ يَلطِمُ وَجهَهُ وَلَيسَ إِلى دَاعي النَدى بِسَريعِ
الترك ليسوا أبناء عمومة للعلويين الذين يحكمون سوريا، لكنهم أبناء عمومة السّنة السوريين، فهم العدو.
لم ينسَ قط العلويون عداواتهم مع العثمانيين، فهي حرب دينية، ولهذا تحالفوا مع إيران الشيعية وروسيا الأرثوذكسية التي فتح العثمانيون عاصمتهم بيزنطة وغنموها وجعلوها إسلامبول.
من الجدير بالذكر أن البيان قاصر، وقد يصدر له ملحق، فليس فيه إشارات أو وصفات لسبل مساعدة الشعب السوري المسكين تحت الاحتلال العثماني في اللواء السليب، ولا ذكر لطرق تهريب جِرار الغاز إليهم، أو قذف أكياس الخبز بالطائرات عليهم لإنقاذهم من الجوع والمسغبة، أو تزويدهم ببطاقات ذكية وشرائح إلكترونية من أجل التواصل الاجتماعي مع أقاربهم في سوريا الأم.
عندما “طلّ الصبح يا علوش”، بحثت عن البيان السليخ وملاحقه الذريّة المنتظرة، فلم أجده على موقع مجلس الشعب السوري، كان قد اختفى في ظروف غامضة، ووجدت صفحته في فيسبوك محجوبة: “سبقونا هالحصّادة”.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت