ازدحمت صفحات السوريين في مواقع التواصل الاجتماعي، طيلة أيام نهاية السنة، بالمعايدات، وبمنشورات الشوق إلى بيوتهم وشوارع مدنهم، التي بات الغياب عنها حالة راسخة منذ عقد كامل، بسبب الظرف الأمني، وخطر الملاحقة، الذي تعرض له كثيرٌ من الناشطين، ممن شاركوا في الحراك الثوري.
النمطي الحاضر في ما كُتب ويكتب، مال إلى خلق صورة شفافة للمكان الذي تمت مغادرته بشكل قسري، لكن في المقابل، وبشكل تلقائي، كانت تصعد إلى الواجهة صور أخرى للمكان ذاته، تنقض سابقتها، وتعيد بناء تفاصيلها بشكل مختلف كلياً، تقوم على الخوف والرهبة من تفاصيل أخرى في الحيز المشتهى ذاته، هي الحواجز الأمنية، والمقرات المخابراتية، المقترنة بالسجن، والتعذيب، والاختفاء.
وبينما يُكتب البورتريه الذاتي في المنفى من السقوط في الفضاء الخالي من الشكل، والمرتبك، الناتج عن فقدان الأمان (بحسب م بوجور، في كتاب قاموس الشعرية)، وهو الحلم التقليدي الذي يعيشه كل سكان البسيطة، سيتشكل الحلم المربك الذي صار وباء يجتاح أدمغة السوريين، من موقف يتكرر، إذ يرى المرء نفسه معتقلاً عند الحاجز الأمني.
الحضور الكارثي للأمني في سوريا المعاصرة، لم يتشكل في سنوات العقد الأخير، بل حدث منذ عقود. فإذا تجنبنا الخوض في آليات تكونه العمومية، أي التعليمية، والأسرية، والإعلامية، ونظرنا إلى الفضاء المديني، فإن القضية تبدأ هنا، حيث تتجاور المتناقضات بشكل فاقع، من دون أسباب مقنعة لوجودها قرب بعضها البعض، سوى رغبة النظام السياسي في تلويث الحياة اليومية بحضوره المخيف، وبرموزه، وجعلها باقية وترسيخها ليس في عيون مواطنيه فحسب، بل في عقلهم الباطن أيضاً. فعلى سبيل المثال، سيلاحظ الزائر الذي يدقق في التفاصيل، أن غالبية ساحات مدينة دمشق، التي كانت تحتوي الأزهار المنسّقة، حول البحرات المُجملة بحجر صناعي رخيص، تحتوي مقرّات أمنية، أو عسكرية، فضلاً عن استخدامها كأمكنة لتنفيذ أحكام الإعدام بالمجرمين المحكومين بجرائم جنائية.
وباستعراض بسيط سيتذكر الدمشقيون أن “إدارة الحرب الإلكترونية” كانت في ساحة العباسيين، قبل أن تبيعها الحكومة في زمن الأسد الابن، لأحد البنوك الخليجية، وأن فرع الأمن الجوي في الغساني، يطل على ساحة التحرير، بالتناظر تقريباً مع مبنى كلية الفنون الجميلة السابق، وأن مبنى الأركان العامة يتوسط ساحة الأمويين، وكذلك مبنى الأمن الجنائي في ساحة باب مصلى، وفرعه الآخر يحتل زاوية من ساحة الجمارك! ويطل فرع المدينة التابع للأمن السياسي على ساحة الميسات، بينما تطل إدارته على أحد المولات المستحدثة وبنك الدم. وكذلك تحتل إحدى أبرز إداراته، أي فرع الفيحاء، ركناً يقابل مدينة الفيحاء الرياضية، أمام السفارة الروسية! وأبنية كلية الآداب في أول أوتوستراد المزة، تتجاور مع مبنى القضاء العسكري، وأبنية الفروع الأمنية التابعة للمخابرات العسكرية (التحقيق، المنطقة، سرية المداهمة، الخ) كما أن فرع فلسطين الذين كان هنا بين أشقائه، انتقل إلى مبنى عملاق في أول طريق المطار في القزاز، ليطل على أبنية كليات هندسية (الكهرباء والميكانيك)!
المشكلة الفعلية لتجاور هذه المتناقضات ليس مجرد التواجد المكاني، بل من الوظيفة التي يؤديها أحد طرفيها. فهذه المقرات كلها، كانت في وقت ما، تحتوي سجوناً علنية وسرية، ومازالت حتى الآن تؤدي الدور ذاته! أما السجون السورية الكبرى، فلها حكاية مشابهة، حيث يربض سجن صيدنايا العسكري الذي ارتكبت فيه عمليات إعدام الناشطين والثائرين، على تلة قرب المصيف الذي يحمل الاسم ذاته، بحيث سيضطر كل من يقصد مطاعم ومقاهي وملاهي المنطقة لمشاهدة القلعة الأمنية المحمية بالألغام والدبابات. أما سجن عدرا المدني، فهو في منطقة طرفية من غوطة دمشق، بالقرب من الأوتوستراد الدولي، مجاوراً لمدينة دوما، ومخيم الوافدين، ومشفى ابن سينا للأمراض العقلية، ومدينة عدرا العمالية.
طبعاً هنا لا ننسى أن نذكر بِمَعْلَمين راسخين في تاريخ الكارثة السورية المستمرة، فسجن المزة العسكري ذاته، والذي بني في العهد الفرنسي، في منطقة كانت في زمن انشائه بعيدة نسبياً من المدينة، بات الآن يطل على جزء واسع منها. أما سجن تدمر العسكري الرهيب، الذي دمر تنظيم الدولة (داعش) جزءاً منه إبان احتلاله للمدينة، فقد كان ومنذ بنائه، قريباً من آثار المدينة الملقبة بعروس الصحراء!
ونستطيع أن نذكر العشرات من المعالم الغرائبية في شوارع المدن السورية كافة، وليس في دمشق وحدها. ففي كل بقعة من بقاع هذه البلد المنكوبة بالنظام الذي يحكمها، نجد تناقضاً يؤشر إلى مجس بأشواك خشنة يوغل في عقول المواطنين ليذكرهم بوجود القامع، القاتل، السجان. وبتتالي الأيام والشهور والسنوات، سيكون من المحقق أن يألف الإنسان كوارثه اليومية، وأن يرضخ لما هو مفروض عليه، حتى على مستوى الرؤية، وتقبل العناصر التي تحتويها الصور اليومية التي يشاهدها. إذ كان من الممكن دائماً وبحسب “الأمننة” الشاملة التي خضع ويخضع لها السوري، أن يُقلب المكان المدني ليصبح عسكرياً ومخابراتياً، فقد جرى تحويل العشرات من المقرات الحكومية في بداية الثورة العام 2011، لتصبح أمكنة انطلاق للشبيحة، وللعناصر المكلفة بقمع المتظاهرين واعتقالهم. وهكذا، سيشاهد كاتب هذه السطور، يومياً، كيف كانت حشود العناصر تتجمع في فناء مبنى الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون، قبل أن تنتقل في المركبات العسكرية إلى ساحة “دوار كفر سوسة”، حيث جامع الرفاعي وجريدة “الثورة”، لتُغلق المنافذ على المتظاهرين الخارجين بعد صلاة التراويح للتظاهر في مساءات شهر رمضان.
وعلى مسافة قريبة، سيمر سوريون أمام مبنى المدرسة الفرنسية في منطقة المزة فيلات، وبقربها فناء مشفى 601 العسكري، حيث كانت الأفرع الأمنية تجمع جثامين المعتقلين المقتولين تحت التعذيب، لتُنقل لاحقاً في شاحنات مغلقة (برادات) إلى مقابر جماعية سرية.
لا يعرف الزائر الغريب عن الأمكنة السورية، ما تحتويه. فالقصة لا تتعلق بالسياح الذين كانوا يأتون برفقة أدلاء سياحيين يؤدون دوراً وظيفياً، تضاف إليه مهمة إغلاق الدروب أمام الأسئلة الغريبة للأجانب. بل تتعلق بأبناء البلد ذاته، بشكل عام. فكثيرون من هؤلاء، كانوا يتجاهلون ما تراه عيونهم، من عناصر أمنية بألبسة بائسة أمام مقراتهم، ويكفون أنفسهم شر السؤال الذي سيثير الريبة امام السوري الآخر. لكن، رغم مرور عقود على التعمية المكشوفة، والمفهومة من قبل المواطنين، وبفعل تراكمي، سيتحول المعمي إلى منظور ومتفق عليه، غير قابل للمراجعة. ولهذا سيكون من غير المألوف أن يقوم سوري بالتفكير العلني، حيال ما يشاهده، وما انطبع كصورة نهائية وخالدة في عقله!
فأي مراجعة لتفاصيل القبح الحياتي ذي الأصول الأمنية، هي من باب الممنوعات، حيث ستُخمَد أي ملاحظة حول الأمر، حتى وإن تعلقت بألوان الطلاء، حيث تتشابه المدارس (ابتدائية، إعدادية، ثانوية)، وكذلك الجامعات، مع مؤسسات الدولة بما فيها الأبنية العسكرية والأمنية، بألوان الأبيض الطبشوري في الأعلى والرمادي الصقيل في الأسفل، بينما تُطلى أسوارها برشّة خشنة ذات لون ترابي، لتُسطّر الشعارات السلطوية فوقها، بما يجعل من المستحيل إزالتها، إلا بطلائها كلها مرة ثانية.
الكاتبة والباحثة الأميركية ميريام كوك، في كتابها “سورية الأخرى، صناعة الفن المعارض”(صدرت الترجمة عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات)، كرست فصلاً كاملاً حمل عنوان “خففِ الوطء”، لمراجعة تجارب ثلاثة مبدعين سوريين قضوا ردحاً من سنوات أعمارهم في معتقلات الأسد الأب، لا سيما ما كتبوه ضمن النوع الأدبي المسمى بأدب السجون، ومن ضمن ما عاشته في دمشق، كمحاولتها السير في الطريق التي حكى عنها المسرحي والروائي غسان الجباعي، بين الجمارك والجامعة (كلية الآداب) والتي تقع تحتها الزنازين الأمنية، حيث قضى أيام سجنه الأخيرة، فتقول: “في طريقي إلى المنزل، قمت بما هو أكثر من الانتباه. نزلت من الميكرو عند محطة الجامعة، ومشيت مسافة الميل الذي يغطي السجن الموجود تحت الأرض. إنه المكان الوحيد المهمل من الطريق السريع، وقد شعرت به بوضوح. ارتعدت فزعة وأنا أفكر في أنني أدخل وأخرج من المدينة كل يوم بسيارتي فوق أجساد مئات الرجال المعتقلين في مساحاتٍ صغيرة من دون هواء، ومن المحتمل أن يقضي بعضهم مجاهداً ما تبقى من عمره في هذا المكان الفظيع. لم ألاحظ شيئاً غير اعتيادي، وصُدِمت مرة أخرى بقدرة النظام على إخفاء اسراره”.
فعلياً، لم يكن النظام يخفي أسراره أبداً أمام الناس الذين يحكمهم، بل كان يفعل العكس تماماً، وذلك من أجل تكريس معادلة تقول: إما أن تكون معنا، أو صامتاً، فتمضي إلى هذا البناء.. أو تكون غير ذلك، فتقضي وقتاً وربما عمراً في البناء الآخر! لكن لا بأس من أن تقوم كوك، وغيرها من الغربيين وبعض المثقفين العرب، بمراجعة تلك التفاصيل التي اعتبرت ماضياً، وأن يلي هذا تدوين الحاضر الذي لا يختلف عما سبق، سوى في أن الموت والقتل، لم يعد يجري فقط في السجون، بل صار يحدث في الفضاء المفتوح، أي في طول البلاد وعرضها!
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت