قبل ثلاثة عقود، بين 31 من نوفمبر و1 من أكتوبر، عام 1991، وفي مؤتمر مدريد بين العرب والإسرائيليين، وبحضور دولي، ورعاية أميركية؛ لم يكن ثقل وزير الخارجية الروسي حينها “كوزيريف” أكثر من ثقل وزير خارجية أي دولة إقليمية عادية تحضر المؤتمر، رغم الدور المفصلي للاتحاد السوفييتي، في الصراع العربي-الإسرائيلي المزمن. ذلك المشهد كان مهيناً جداً للروس. بعد ذلك التاريخ بعقدين ونيّف، كان المشهد مختلفاً تماماً. كان بوتين قد أتى إلى السلطة الروسية عام 2002؛ وكانت انطلاقة الربيع العربي عام 2010، ليجد بوتين فرصته في العودة إلى الحلبة الدولية؛ فكان حضور “لافروف” وزير خارجيته في مؤتمر جنيف 2012 حول القضية السورية نداً لحضور الوزير الأميركي “كيري”. حتى عندما تشكّل التحالف الدولي للقضاء على “داعش” في سوريا والعراق، ورغم استبعاد روسيا من ذلك التحالف؛ استطاع بوتين تدبُّر أمره، ودخل سورياً مدعوّاً من منظومتها الاستبدادية، وتحت يافطة “محاربة الإرهاب”.
لم يغب عن ذهن بوتين أن الغرب، وخاصة أميركا، كان وراء انهيار الاتحاد السوفييتي. لم يكتف بنسج علاقات معمقة مع بعض سلطات الجمهوريات السوفييتية السابقة التي تشبه سلطته، ولا افتعال توترات دموية وسطو على بعض الجمهوريات التي خرجت على توجهاته كجورجيا وأوكرانيا، والتي تحولت إضافة للقرم إلى أحمال ثقيلة ينوء تحتها، وتربكه داخلياً وخارجيًا؛ ولكنه وجد فرصته الذهبية للعودة للساحة العالمية عبر القفز إلى سوريا بموقعهما الاستراتيجي، وثقلها العربي، وقربها من إسرائيل- ربيبة أميركا-
دخل بكل ثقله؛ جرّب مئات أصناف الأسلحة؛ باع الكثير منها؛ وضع يده على مقدرات سوريا الاقتصادية لعقود؛ وضع قرارها بيده. وبتصوّره استطاع أن “يهزم الإرهاب المتمثل بالشعب السوري المعارض لمنظومة الاستبداد الأسدية”؛ ولم يبقَ أمامه إلا تتويج تلك الانتصارات بإعادة “النظام” كما كان قبل 2011، من خلال إعادة العلاقات معه، ورفع العقوبات من خلال “حل سياسي”؛ إلا أنه يتأكد يوماً بعد يوم أن كل ما أنجزه سيكون في مهب الريح، إن لم يكن هناك حلٌ سياسي يأخذ بالاعتبار مئة جهة وجهة ترتبط بالقضية السورية.
إذا ما وضعنا جانباً المئة جهة- ومن بينها شعب سوريا والعرب وأميركا وإيران وإسرائيل- والتفتنا فقط إلى جهة واحدة تُسمى تركيا؛ وتعمقنا قليلاً بما جرى بين البلدين (روسيا وتركيا)، خلال انخراطهما بالقضية السورية، سنكتشف درجة مأزومية بوتين وأبعاد المستنقع الذي يغوص فيه؛ وخاصة أنه يدرك حجم الحدود بين سوريا وتركيا، وحجم الشعب السوري الموجود في تركيا وعلى حدودها، ومدى القلق الأمني الآتي من الشمال الشرقي السوري.
ليس غائباً عن ذهن بوتين أن مأزقه الحقيقي في القضية السورية فعلياً مع تركيا، وليس مع أي جهة أخرى. لا يذهب من ذهنه العداء التاريخي بين البلدين، ولا عضوية تركيا في الحلف الأطلسي، ولا علاقاتها مع الجمهوريات الإسلامية المحيطة بإمبراطوريته، ولا معرفته بأن الغرب- رغم أنه ليس مغرماً بتركيا- ولكنه يريدها رأس حربة مواجهة مع روسيا بالذات. ومن هنا تمَثَّل حضورهما الأول في سوريا بإسقاط طائرة روسية فوق الأرض السورية؛ ومن هنا بدأت علاقتهما الاضطرارية، وزواج المصلحة على الجراح.
مع مأزومية روسيا في الحل السياسي، وضرورة تنفيذ القرارات السياسية، حتى يكون لما فعلته في سوريا عسكرياً معنى أو نتاج؛ شهدنا سحب موسكو لأنقرة إلى “أستانا”. كل منهما ذهب إلى أستانا بأجندته الخاصة. موسكو تريد أن تفرغ القرار الدولي لجهة “وقف إطلاق النار” في سوريا من مضمونه باختراع “مناطق خفض تصعيد”؛ وتركيا حريصة كل الحرص على منطقة خفض تصعيد في إدلب وحلب تحديداً. وكلاهما حقق ما يريد. حتى ذاك الذي نجحت به تركيا في إدلب لم يكن مُرضياً للروس؛ ومن هنا نشهد الاستهدافات الروسية لإدلب يومياً تقريبا بذريعة عدم إيفائها بالتزاماتها.
أرادت روسيا إجهاض عملية “الانتقال السياسي” في سوريا، فخرجت بفكرة “لجنة دستورية”؛ وسحبت تركيا معها مرة أخرى. والآن، لا هي تستطيع ترتيب الأمور كما تشاء بحكم تدخل الأمم المتحدة ودول أخرى، ولا هي تستطيع العودة لبنود القرار الدولي. وفي كل ذلك تبقى تركيا بالمرصاد الشريك “المؤتمن”، لكن ذاك الذي لا يمرر للروس ما يريدونه. وبناء على كل ذلك التناحر والتناقض البارد، نشهد استمرار التناقض العضوي بينهما في أوكرانيا وليبيا وأرمينيا وأذربيجان، ما يكاد يُخرِج بوتين من البحر الأسود كبوابة باتجاه آسيا.
تناقض هذا الزواج المصلحي يتجلى أكثر اقتصادياً في الصراع النفطي باتجاه أوروبا عبوراً وإنتاجاً؛ فاتفاقيات “سيفر” و”لوزان”، والتي حرمت تركيا من التنقيب عن النفط لمئة عام، ينتهي مفعولها هذا العام؛ وهذا يرعب “إمبراطورية” بوتين. والأخطر من كل ذلك ما حدث في “كازاخستان” مؤخراً؛ فتركيا تزاحم بوتين جدياً هناك، واستثماراتها الاقتصادية والبشرية والدينية (70%من سكانها مسلمون- معظمها قبائل تركية) لا تقل، وتتناقض تماماً مع استثمارات بوتين في دكتاتورية “نزارباييف” التي امتدت لعقود، ومع الأداة التي نصّبها، الرئيس “توكاييف”؛ والآن تدخل بوتين عسكرياً لقتل شعب ثائر، تماما كما فعل في سوريا.
وبالعودة إلى جَمْرِ تناقضهما في سوريا تحت رماد زواج المصلحة الإكراهي إياه، نشهد أن روسيا استجدت التحالف الغربي وأميركا تحديداً ليكون لها موطىء قدم في الشمال الشرقي السوري. وهدفها وراء ذلك الإذن منحها الوجود الجوي في الشمال الشرقي السوري للتضييق على تركيا، والإبقاء على خاصرتها رخوة، والحؤول دون أي استهداف تركي لما يهدد أمنها القومي هناك، وليس لبسط سلطة الأسد على أرضٍ سوريةٍ، كما تدّعي.
مهما ازدهر عهد “البلطجة”، وخاصة إذا كان مرفقاً ببهلوانية، إلا أن نتيجته وخيمة. لن تفيد بوتين ارتباطاته مع دكتاتوريات تسحق شعوبها، وتبتلع خيرات بلادها. لن تفيده البهلوانية مع تركيا؛ والجمر بينهما لن يطول إخفاء الرماد السوري له كثيرا؛ فتركيا ذاتها لن تكون إلا رأس حربة قوى وجهات أكثر رسوخاً بالقوة لاستنزاف روسيا ودحرها من جديد. قد يفيده وينجّيه من أحماله وأسماله ربما علاقات صحيحة مع شعوب تطالب بحقوقها وتنشد الحرية، ودول ترعى ذلك؛ فهل يصحو ويتوقف عن البهلوانية والمكابرة قبل مزيدٍ من الغوص في المستنقع؟!
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت