وسط فوضى تصريحات المسؤولين في حكومة النظام، بخصوص مصير آلية “المناقلة” لشاحنات البضائع السورية على الحدود العراقية، بين تأكيد إنهائها، وبين نفي ذلك، لا نجد في سيل التصريحات تلك، أي تفسير لأسباب إصرار السلطات العراقية، حتى الآن، على إبقاء هذه الآلية، مع الجانب السوري، بالتحديد، فيما تتحرك شاحنات البضائع التركية والإيرانية والمصرية والأردنية، داخل العراق وفي جميع محافظاته، دون “مناقلة” على الحدود، وبرسوم مخفّضة مقارنة بنظيرتها السورية.
وقد وضع تصريح وزير الزراعة بحكومة النظام، حدّاً لفوضى التصريحات بخصوص هذه المسألة. ليؤكد أن رئيس الوزراء العراقي وعد باتخاذ كل ما يلزم لدعم تسويق المنتجات السورية، وأنه سوف يصدر القرار المناسب بهذا الشأن، في وقت قريب. مما يعني أن آلية “المناقلة” ما تزال قائمة.
ومنذ العام 2020، وبذريعة الإجراءات الاحترازية ضد تفشي “كورونا”، منع العراق الشاحنات السورية من دخول أراضيه، وفرض على تلك الشاحنات تفريغ بضائعها على الحدود ليتم تحميلها في شاحنات بضائع عراقية تتولى نقلها إلى أسواق الجُملة المحلية. ورغم أن قرار المنع المشار إليه، كان متبادلاً مع حكومة النظام، في حينها، إلا أن الأخيرة رفعت هذا المنع، فباتت الشاحنات العراقية تدخل بكل حرية إلى الأراضي السورية. لكن العراق لم يبادل سلطات النظام بالمثل.
وقد ازداد اهتمام النظام، مؤخراً، بإيجاد حلٍ لهذه المشكلة، بعد أن تعرض محصول الحمضيات في الساحل السوري لأزمة كساد وتلف قسم كبير منه. وخشية غضبة الشارع في الساحل، جراء خسارته محصولاً رئيسياً في وقتٍ يتفاقم فيه التدهور المعيشي في عموم الأراضي السورية، أرسل رأس النظام رئيس وزرائه الى اللاذقية، بهدف إيجاد حلول عاجلة لأزمة تسويق محصول الحمضيات، قبل فوات الأوان.
ولهذا الغرض، أوفد النظام، وزير الزراعة إلى بغداد، كي يقنع مسؤوليها بإزالة عوائق دخول الشاحنات السورية، بهدف تسويق محصول الحمضيات المرغوب بشكل كبير وفق التجار العراقيين. ذلك أن كلفة تنزيل البضائع من الشاحنات السورية وإعادة تحميلها في شاحنات عراقية على الحدود، ترفع تكلفة المنتج السوري وتضعف قدرته على المنافسة في السوق العراقية، أمام الحمضيات القادمة من إيران وتركيا وباكستان ومصر.
وقد تكون من المفارقات، أن فوضى التصريحات بخصوص الموضوع نفسه، سبق أن حدثت قبل عام، في شهر شباط/فبراير الفائت، حينما بشّر مسؤولون سوريون بحل العُقدة ذاتها. قبل أن تنفي مصادر في معبر البوكمال على الحدود مع العراق، ذلك.
ويمكن فهم أسباب المرارة التي يشعر بها أرباب التجارة والصناعة والزراعة السوريين، حيال العوائق التي تضعف قدرتهم على المنافسة في أسواق العراق. فهذا البلد كان يستورد من سوريا، بضائع بقيمة 2.2 مليار دولار عام 2010، ما نسبته 46.5% من إجمالي الصادرات السورية إلى البلدان العربية، في ذلك التاريخ.
ورغم أن قيمة الصادرات السورية إلى العراق تهاوت بصورة هائلة، بعد العام 2011، لتسجل –كمثال- أقل من 100 مليون دولار خلال النصف الأول من العام الماضي، إلا أن هذا البلد العربي ما يزال أكبر سوق للصادرات السورية، إذ أنه إستحوذ وحده، خلال الفترة ذاتها من العام الماضي، على حوالي 20% من الصادرات السورية الموجهة إلى مختلف دول العالم.
النسب الأخيرة تكشف مدى أهمية السوق العراقية للصادرات السورية، وتطرح تساؤلات ملحة حول سبب إصرار العراق على إبقاء آلية “المناقلة”، رغم أنه أزالها مع معظم الدول -الأردن كمثال-، بعد تغير طبيعة الإجراءات الاحترازية المتعلقة بمواجهة “كورونا”.
في حزيران/يونيو الفائت، وخلال اجتماع بين صناعيي سوريا، ووزير الصناعة العراقي، نفى الأخير أن تكون هناك ضغوط “دولية” تمنع العراق من تطوير التعاون الاقتصادي مع حكومة النظام. لكنه أقرّ في الوقت نفسه، بأن إصرار العراق على آلية “مناقلة” البضائع، يرجع إلى الأوضاع الأمنية في سوريا، وعدم امتلاك العراق لآليات موثوقة للتفتيش. وهو ما دفع صناعيين سوريين إلى اقتراح إيجاد شركات تفتيش فاحصة مشتركة، لإنهاء هذه المشكلة. لكن، حتى اليوم لم يتجاوب الجانب العراقي بهذا الصدد.
فمخاوف العراق من الحدود السورية، لها أسباب عديدة. أبرزها، المخدرات التي باتت تؤرق سلطات هذا البلد العربي، بعد أن أحبط، نهاية الشهر الفائت، أكبر عملية تهريب مخدرات في تاريخه، قادمة من الأراضي السورية. وتوالت خلال السنة الفائتة، بيانات الجهات العراقية المختصة، بخصوص إحباط عمليات تهريب من سوريا، وإلقاء القبض على تجار مخدرات على حدودها.
ورغم أن تهريب المخدرات بين سوريا والعراق لا يتم بالضرورة عبر معبر البوكمال الرسمي، بل عبر ما وصفه مسؤولون عراقيون بـ “ثغرات” حدودية، إلا أن افتقاد العراق لأجهزة تفتيش مناسبة جعلته يخشى أن يتحول المعبر إلى ممرٍ سلسٍ للمخدرات بين البلدين، خاصة إذا أُلغيت آلية “المناقلة”، وباتت شاحنات البضائع السورية تدخل مباشرة إلى الأراضي العراقية. مما سيتيح تمرير كميات أضخم من المخدرات، مقارنة بتلك التي يمكن تمريرها عبر معابر غير شرعية.
أما الهاجس الأمني الآخر، فيتعلق بتسلل عناصر من “داعش”، التي تنشط في البادية السورية بقوة. فتشديد الإجراءات الأمنية العراقية على الحدود السورية وصولاً إلى حفر خنادق وتشييد سواتر ترابية ووضع كاميرات حرارية متطورة، لن يكون مجدياً، إذا أُتيح مرور شاحنات سورية ضخمة، من المفترض أنها محملة بالبضائع، إلى داخل الأراضي العراقية، دون “مناقلة”، ودون امتلاك أدوات مضمونة للتفتيش.
فيما يبقى العامل الثالث، وهو الخشية من عقوبات أمريكية على العراق، في حال رفع سقف تعاونه الاقتصادي مع النظام، واحداً من الهواجس التي تقلق صانع القرار في بغداد. فـ لبنان والأردن ومصر، مثلاً، حصلوا على ضمانات أمريكية بعدم فرض عقوبات عليهم بخصوص التعاون مع النظام في تمرير الكهرباء والغاز عبر أراضيه. كذلك جاءت خطوة إعادة فتح معبر نصيب السوري – الأردني، بعد زيارة ملك الأردن لواشنطن، صيف العام الماضي، والتي حصل فيها على ضوء أخضر أمريكي بهذا الخصوص. لكن لا يبدو أن ضمانات أمريكية مماثلة، متاحة للعراق الآن، مما يجعل الأخير يفضّل التريث في رفع سقف تعاونه الاقتصادي مع حكومة النظام السوري، رغم الزيارات المتبادلة للمسؤولين، والحديث المتكرر عن الرغبة بتعزيز هذا التعاون.
وبناء على ما سبق، سيكون من المفاجئ أن يتراجع رئيس الوزراء العراقي، عن آلية “مناقلة” البضائع مع سوريا، في القريب العاجل. ذلك أن الهواجس الثلاثة، المخدرات والأمن، والعقوبات الأمريكية، كفيلة بألا يفي مسؤولو بغداد بوعودهم لنظرائهم في حكومة النظام، بإزالة كافة العوائق أمام انسياب البضائع السورية إلى داخل الأراضي العراقية.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت