بعيداً عن الوقائع اليومية لمجريات الحرب الدائرة في أوكرانيا، وبعيداً عن نتائجها التي يكثر التحليل والتنجيم فيها، وبعيداً عن مدى ترابط الساحة السورية بهذه النتائج، لكون روسيا التي تقف اليوم في وجه أهم القوى العالمية، هي اللاعب الأهم في سوريا، بعيداً عن هذا كلّه، فإن هناك حقيقة واضحة يجمع عليها كل السياسيين والمثقفين وصنّاع القرار في العالم، وهي أن العالم بعد هذه الحرب سيختلف كثيراً عما قبلها، كيفما كانت نتائجها.
إذاً، ومهما تكن نتائج الحرب الروسية – الأوكرانية، فإن ترتيباً جديداً للعلاقات الدولية على أسس تختلف عمّا هي عليه الآن سيكون ضرورة، وسيعود سباق التسلح مرة أخرى إلى واجهات اهتمام الدول، وستصاغ معادلات اقتصادية جديدة، وربما تحالفات جديدة اقتصادياً وعسكرياً، وأوروبا التي بدت وحدتها هشة وقابلة للانفراط، توحدها اليوم روسيا البوتينية وتقف وجها لوجه أمام السؤال الذي تجاهلته طويلا وهو إلى أي حد يمكن الوثوق بأميركا، وإلى أي حد يمكن لها أن تبقى تابعة ومرتهنة للقرار الأميركي وللقوة العسكرية الأميركية؟
إذا كانت كل المؤشرات تذهب إلى توقع أزمة اقتصادية عالمية، وأزمة غذاء وطاقة، ومزيد من الحروب، فما الذي سيُبقي الملف السوري حاضراً على طاولة الدول الكبرى؟ وهل من العقلاني أن يستمر السوريون في انتظار الآخرين لحل مشكلتهم؟ وهل يمكن الركون إلى من يحكم سوريا اليوم؟ والذي يزج بها وبحماقة بالغة في حرب أوكرانيا، وكأنه لم يكتف بتدميرها وتهجير شعبها، واستقدام جيوش متعددة إليها، وبيع أو رهن ثرواتها، يُسارع في هذه اللحظة التي يحبس فيها العالم أنفاسه خوفاً من حرب عالمية ثالثة، ليضعها وبمنتهى الغباء والتبعية، في موقع تبدو فيه وكأنها طرف في حرب تستعر بجنون، ولا يعلم أحد إلى أين ستصل، فهل سيصمت السوريون طويلا على تحويل بلدهم إلى مجرد ساحة لصراع الآخرين عليها؟
الأخطر من هذا، ليس فقط تراجع الاهتمام بسوريا، وليس فقط ذهاب الأطراف الدولية الفاعلة إلى الإبقاء على الوضع الراهن، متجاهلين مأساة السوريين وانهيار كل مقومات الحياة لديهم، الأخطر هو أن تحاول هذه الأطراف استعمال سوريا كساحة حرب لتخفيف الخسائر عن بلدانها، ونهب إمكاناتها لتدعيم اقتصاداتها أو حربها.
في ضوء ما تقدم، يُمكن القول إن أحداً لن يفكر في المدى المنظور بحل المعضلة السورية، وأن أحداً لن يقدم على المساهمة في إعادة إعمارها، فالأولوية الآن للحرب المجنونة التي تلقي بظلالها المخيفة على كامل مساحة كرتنا الأرضية، وبعدها – ومهما تكن نتائجها- فإن الأولوية التي سيتصدى لها العالم، ستكون ترميم ما سوف تدمره هذه الحرب من اقتصادات ودول، وما سوف تفرضه المعادلة الجديدة من أعباء وميزانيات.
في المعادلات التي ترتسم في الأفق، سيكون من الحماقة البالغة أن تكون سوريا مرتهنة لأبشع نظامين في العالم، أقصد “الروسي البوتيني”، ونظام “الملالي الإيراني”، وإن بقاء سوريا في تبعية كاملة لهاتين الدولتين هو نهاية لها، فهل يُسارع السوريون لفهم المعادلات الجديدة، والدخول في شراكات حقيقية تتيح لهم إعادة إعمار بلدهم، والخروج بأقل خسارة من مأزق ما يزال يطبق عليهم؟ ولا يلوح في الأفق أي نهاية له، إذا ما استمرت مقاربتهم للعلاقات الإقليمية والدولية بالطريقة ذاتها.
العقبة الأساسية أمام إعادة تموضع سوريا في النظام العالمي الذي ولدته الحرب في أوكرانيا (والتي قد تتوسع في أي لحظة)، تتمثل في عائلة الأسد، التي لم تخرج لحظة من حساباتها الشخصية وهوسها بالسلطة وإدارتها المافياوية لها، والتي لم ترَ سوريا لحظة واحدة على أنها وطن وشعب يريد ككل شعوب الأرض أن يعيش حراً وكريماً.
لكن ورغم كل الظروف القاهرة التي يعيشها السوريون، فإن هذه العقبة اليوم هي الأضعف، وإن استمرارها في خطف سوريا كرهينة لاستمرارها في الحكم، لا ينبع من قوتها، بل ينبع أساساً من ضعف خصومها واستسلامهم، وعليه فإن أي حركة اليوم باتجاه إزاحة هذه الطغمة، هي أكثر جدوى وقدرة من لحظات كثيرة سابقة.
إنّ ضرورة إزاحة عائلة الأسد لا تتأتّى فقط من خيانتهم لوطنهم، ومن اعتبار السلطة أولوية مطلقة في حساباتهم، بل يتأتّى أيضاً من انعدام قدرتهم اليوم على فعل أي شيء لخدمة سوريا، فهم ليسوا أكثر من بيادق تحركها دول أخرى، وليسوا إلا مجرد تابعين لدول لا تهمها مصلحة سوريا، ولا الشعب السوري.
إن في تلاقي السوريين في الداخل والخارج، وفي الموالاة والمعارضة، وفي كل التصنيفات الأخرى على هدف إنقاذ سوريا دون أي تفاصيل أخرى، وفي حسن استغلالهم لهذه اللحظة التاريخية، للخروج من حالة الاستنقاع المدمرة نهاية كاملة لحقبة عائلة الأسد البغيضة، وإن أي قيادة جديدة لسوريا خارج عائلة الاسد، ستفتح حتماً مساراً جديداً لسوريا، وتفتح آفاقاً أرحب لاتفاق السوريين، والبدء بصياغة عقدهم الاجتماعي الجديد، وصياغة دستورهم، وخلق آليات ناظمة لاختلافهم يحكمها القانون والدستور.
في الذكرى الحادية عشرة للثورة السورية التي تحل قريباً، نتذكر أن أحد عشر عاماً مرت على سوريا، منذ أن حاول السوريون أن يخرجوا وطنهم من مأزق كبير، ورّطتهم به قيادة لم تر في السوريين ووطنهم إلا مزرعة وكرسي حكم، ونتذكر أن الأفق المغلق مايزال مغلقاً باتجاه حلول عملية تخرج سوريا من محنتها، وتقول الذكرى لنا ما هو أهم من كل هذا وهو أن سوريا ومأساة السوريين، على ضوء الحدث الأوكراني ستتراجع كثيراً في ترتيب قائمة اهتمام العالم، فإلى متى سيظل السوريون يعدّون السنوات بانتظار انتهاء هذه الكارثة؟
اليوم تحتاج سوريا إلى سوريين حقيقيين، لا يهم تصنيفهم سياسياً أو دينياً، أو أي تصنيف آخر لهم، يتنادون إلى تشكيل هيئة لإنقاذ سوريا، تقول للعالم إن حقوق السوريين في أرضهم، وإن سيادتهم هو حق خالص للسوريين، وإن عائلة الأسد التي أهدرت كرامة السوريين، ودمّرت سوريا، ولا يهمها شعب أو تاريخ، لم يعد لها دور.
إن الدرس الأوكراني البالغ الفصاحة والوضوح، والذي نتابع مفرداته لحظة بلحظة، هو أن الشعوب عندما تضع أوطانها نصب أعينها، قادرة على اجتراح المعجزات، إن لم تخنها قيادتها.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت