ليس فقط السلاح الروسي المدمّر هو الذي حظي بفرصة التجارب الحية على أجساد الناس وأبنيتهم ومدنهم في سورية، كذلك يتعامل الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في حربه على أوكرانيا بسلاح الإعلام المجرّب في الحرب السورية، سواء بإحياء أناشيد حماسية منسية، أو بإلقاء خطابات جماهيرية “مستعملة”، وهي في حالتنا السورية محفوظة غيباً، وكأنه يفضّل عدم ابتكار وسائله الخاصة، أو لتأكيد أنه صانع سياسات الرئيس السوري، بشار الأسد، الذي سبقه في استخدامها.
تطابق أفعال بوتين في سورية مع مجريات الحرب الأوكرانية خلال هذه الأسابيع يسهّل على المجتمع الدولي عموماً، والسوريين تحديداً، معرفة ما بعد اليوم التالي من تصريحات وحملات روسية “تبشيرية” وتحذيرية من نوعية الأسلحة التي ينوي “خصمه” استخدامها، إلى عمليات التهجير المفتعلة من الضحايا أنفسهم، إلى المقابر الجماعية، وجثامين القتلى على الطرقات، وغير ذلك من أخبار صارت في السنوات الماضية اعتيادية، باستثناء أنها اليوم تتميز بمكانها الجغرافي ومرجعيتها القومية ونوعية مورثاتهم الجمالية.
لا جديد يمكن رصده في أوكرانيا باستثناء السرعة في الانتقال من مرحلة إلى أخرى قياساً على حربه في سورية، إنه فيلم رعب صوّر سابقاً في سورية، رآه العالم مرّات ومرّات حتى لم تعد تفاصيله غريبة عليهم، حرّك بوتين أبطاله بحرفية، وجعل من بطله الشرير قادراً على النجاة من كل شيء، الطرد من جامعة الدول العربية، الحصار والعقوبات والقطيعة، وأخيراً “هاشتاغ” شهر المحاسبة، صور له مشاهده وسط حطام مدينة حمص وعلى أنقاض الغوطة وفي مزارع إدلب، وصولاً إلى دولة الإمارات في مشهد هو رسالة روسية يوضح، من خلالها، أن الملف السوري لا يزال بين أوراقه، وأن حجم التلاعب فيه لا يزال كبيراً ومتنوعاً.
وعلى ذلك، يمكن القول إن خسائر موسكو في أوكرانيا لا تعني فقدانها مكانتها في سورية، رغم صحوة الضمير الغربية التي بدأت تشقّ طريقها في تصريحاتهم عن الدور الروسي التخريبي، واستخدامهم مشاهد الدمار التي أحدثتها الآلة العسكرية الروسية في سورية في سياق التعريف بملف جرائم بوتين في أوكرانيا، ما يعني أن ضحايا السوريين هم مجرّد وسائل إيضاح يضعها الغرب في مواجهة ادّعاءات روسيا في أوكرانيا، وليس استنكاراً لجرائمها، أو استبعاداً لدورها في الملفّ السوري، ما يعني ضرورة الحذر من افتراض انعكاسات الحرب الروسية في أوكرانيا إيجاباً على الصراع السوري، أو أنها ستكون عاملاً مؤثراً في انحياز الغرب إلى الثورة السورية، ودعم مطالبها في إزاحة نظام الأسد عن سدّة الحكم.
لقد صنع بوتين من سورية نموذجاً، أو مجسّماً لحروبه الحالية واللاحقة في دول الاتحاد السوفييتي السابق أو أوروبا، وسوّق نموذجه للديكتاتوريات في العالم، سواء تلك القادرة على حماية نفسها أو التي اعتادت العيش في جلباب رعاتها، فأخلاقيات العالم الغربي وادّعاءات حقوق الإنسان تقف اليوم في مواجهة مصالح تلك الديكتاتوريات، ما يجعل من مجسّم سورية بصورة بشار الأسد الذي تحرّر من سجنه بعد 11 عاماً يسهل عليها اختيار اصطفافاتها الجبهوية بين روسيا طرفاً والغرب طرفاً مقابلاً. وعلى ذلك، ليس غريباً أن تنضم دول جديدة إلى ما يسمّى محور “الممانعة” في وظيفته الجديدة ضد عدوى الحرّيات والديمقراطية.
وهذا لا يعني أن الغرب معنيّ بحريات شعوب منطقتنا العربية وديمقراطياتها إلا بالقدر الذي تكون عليه تلك الحرّيات في خدمة مصالحه ومشاريعه، فسنوات حرب النظام السوري، بالتعاون مع روسيا وإيران، ضد السوريين، لم تحرّك المجتمع الدولي “المتأزم” اليوم لأسباب جغرافية من الحرب الروسية في أوكرانيا، ولم تنجز الدول الديمقراطية أي خطوةٍ عمليةٍ باتجاه وقف المأساة السورية التي اختصرتها من جهتها بمعضلة اللجوء، بينما اختصرتها روسيا بمشروع إعادة الإعمار.
فاقت اليوم أعداد اللاجئين من أوكرانيا خلال أسابيع ما أفرزته الحرب في سورية خلال سنوات، ما يؤهل ملف أوكرانيا ليتحوّل قريباً إلى المشكلة نفسها، رغم لون بشرتهم البيضاء وعيونهم الزرقاء، والبحث الدولي عن حلول على طاولة المفاوضات وعبر مساراتٍ عديدة لن يجعل هذه الحلول تحقق الأهداف التي يدافع عنها الشعب الأوكراني، كما هو حال الشعب السوري. وربما كان علينا أن نعترف بأن ما كان عليه من تعاطف حكومي وشعبي في مختلف أنحاء العالم مع بداية الثورة السورية في 18 مارس/ آذار 2011 ليس بعيداً عمّا يجري الآن مع أوكرانيا، كذلك فإن حجم الإثارة في متابعة حربٍ تبثّ عبر شاشات الفضائيات لن يدوم طويلاً، على الرغم مما فيها من هول الجرائم والارتكابات، وعلى أرضٍ حدوديةٍ مع أوروبا ودولها التي تخلت عن طابعها العسكري، والتفتت إلى تنميتها البشرية والاقتصادية والإنسانية، مع ما يعنيه ذلك من تهديدٍ حقيقيٍّ لشعوبها وقيمها التي تتطلب إعادة السلاح لأخذ موقعه لحماية هذا السلام، مع الإشارة إلى أن كل ما نشاهده من أحداث هي مشاهد مكرّرة عن نسخة سابقة اسمها “سورية” صنع فيه بوتين مجسّماً صغيراً لانتصاره اسمه بشار الأسد.
انشغال روسيا بحربها في أوكرانيا بعد أن تعثّرت في إنهائها في الوقت القصير الذي راهنت عليه لا يعني أبداً أن مكانتها في سورية تتضعضع. على العكس، إنها ستسعى إلى تشديد قبضتها عليها. أولاً، لتبقى حاضرة دولياً في الملف الإسرائيلي – السوري والملف الإسرائيلي – الإيراني، وفي الملف النووي الإيراني. وثانياً، لتخفيف أثر عزلها دولياً أمام الشعب الروسي. وثالثاً، لتبقى خياراً أمام الدول التي تنوء بمطالب الغرب بما يتعلق بحقوق الإنسان والحريات والديمقراطية. ورابعاً، لتبقي البوابة السورية الشمالية مفتوحة على تركيا في حالتي التصعيد والتهدئة.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت