جاءت زيارة رأس النظام السوري بشار الأسد إلى طهران ولقاؤه بمرشد “الثورة” علي خامنئي والقادة الإيرانيين، قبل أيام، لتؤكد معادلة سبق أن تنبأ بها محللون كُثر، منذ بداية الشهر الثاني من الحرب الروسية على أوكرانيا، والتي اتضح أنها ستكون مساراً طويلاً من المواجهة الميدانية، والاقتصادية-السياسية، مع الغرب.
وتؤكد نُدرة زيارات الأسد إلى طهران، خلال الـ11 عاماً الفائتة، رغم الدعم الاستثنائي الذي قدمته إيران له، أن هذه الزيارة تتعلق بتطور نوّعي قد حدث، وتطلب التنسيق بخصوصه، لقاءً مباشراً، بين رأس هرم السلطة بدمشق شخصياً وبين رأس هرم السلطة في طهران شخصياً، وتوحي المقدمات والتفاصيل التي كُشف عنها بعيد الزيارة، بأنها كانت بمبادرة ورغبة من الأسد، أكثر من الجانب الإيراني.
وسريعاً، اتضحت مُوجِبات هذا اللقاء في طهران. فقد سرّبت وسائل إعلام روسية ما يؤكد أن موسكو بصدد التقليل من التزاماتها العسكرية في سوريا، لصالح دعم مجهودها الحربي في أوكرانيا، وهو ما استغلته طهران لملء الفراغ الروسي.
ومن المواقع التي ملأتها قوات محسوبة على إيران، قواعدٌ في جنوبي دمشق، وهو ما أقلق إسرائيل، خصوصاً أن هذه التطورات الميدانية جاءت في وقتٍ تتوتر فيه العلاقات بين تل أبيب وموسكو. وهو ما تطلب زيارة مستعجلة قام بها الأسد إلى طهران، لمحاولة ضبط المشهد. فهو لا يريد أن تتحول مناطق سيطرته إلى ساحة إيرانية لاستفزاز إسرائيل بغية تحقيق أجندات تخص طهران.
الإيرانيون بدورهم، حاولوا طمأنة الأسد، والتركيز على وقوفهم معه في أبرز هواجسه. وفي هذا السياق، يجب التركيز على تصريح مرشد إيران علي خامنئي، الذي أكد فيه “على استمرار إيران في دعمها لسوريا لاستكمال انتصارها على الإرهاب وتحرير باقي الأراضي السورية”، فذلك واحدٌ من أبرز هواجس الأسد. ففي “بحوث النزاعات”، من المعروف أن عدم القضاء النهائي على مقاتلي طرفٍ ما وعدم التوصل إلى تسوية سياسية ناجزة، يعني أن جولة جديدة من الصراع المسلح، واردة بشدة.
وبالتالي، فإن الأسد يخشى أن تكون القوى المسلحة في شمال شرقي وشمال غربي البلاد، رأس حربة لجولة جديدة من الحرب التي تستهدف استمرارية حكمه، في حال تغيرت موازين القوة والأهداف الاستراتيجية للأطراف الإقليمية والدولية المنخرطة في الصراع بسوريا. لذلك فإن من أهم هواجس الأسد، القضاء تماماً على “المساحات” التي يتمتع بها المسلحون المناوئون له في المناطق الخارجة عن سيطرته، واستعادة السيطرة على كامل الأراضي السورية التي كان يسيطر عليها، قبل 2011، كي يضمن استقراراً مديداً لسلطة عائلته.
بدوره، تولى الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، التركيز على هاجس آخر للأسد، عبر التأكيد على “تقديم كلّ أشكال الدعم لسوريا وشعبها ولا سيما في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة..” وبهذا الصدد، فإن الاقتصاد السوري، كما هو معلوم، بحاجة ماسة لـ”جرعات” الوقود الإسعافية، التي تمنحها إيران للنظام بشكل شبه دائم، والتي تتقطع من حين لآخر، بهدف تذكير الأسد بحاجته الملحة لطهران، وأن مساعيه للحصول على دعمٍ بديلٍ من دول خليجية، لن يُسعفه بالشكل المأمول.
لكن، في حين تُطمئن طهران الأسد “الخائف” من تحول أراضيه إلى جبهة إيرانية ضد إسرائيل، بصورة تضرّ بأهدافه الخاصة، يُطلق إعلامها ومحللوها ما يؤكد أبرز مخاوفه. من ذلك، ما قاله محلل إيراني عبر قناة “الجزيرة”، قبل أيام، بأن “تعزيز القوات الإيرانية في سوريا ينسجم مع نبوءة مؤسس الثورة الإيرانية روح الله الخميني بشأن زوال الاحتلال الإسرائيلي”. في حين نقلت وكالة أنباء إيرانية عن دبلوماسي سابق، أن لقاء الأسد مع خامنئي في طهران،
“شوكة في عيون الذين راهنوا على إيجاد شرخ في العلاقة الاستراتيجية بين إيران وسوريا من خلال فتح سفاراتهم والمشاركة في إعادة الإعمار حسب زعمهم”، في إشارة إلى الإمارات والبحرين ودول عربية أخرى. أي أن إيران تراهن بالفعل على تحويل سوريا لساحة، بهدف تعزيز وزنها الاستراتيجي بالمنطقة. ومن المعلوم، أن طهران تستخدم الخطاب الإيدلوجي (مقاومة إسرائيل وأميركا) للتعمية على حقيقة أهدافها الجيوسياسية، المتعلقة بتثقيل وزنها الإقليمي، بصورة تسمح لها أن تتحول إلى شريكٍ للغرب، ولأي قوة دولية أخرى، في ترتيب المشهد الإقليمي، في شرق المتوسط، والجزيرة العربية.
وبعدما نجحت ضغوط إسرائيل وقوى محافظة أميركية داخلية على إدارة الرئيس جو بايدن، لمنعه من تقديم تنازلات من قبيل رفع العقوبات عن الحرس الثوري، في المفاوضات حول إعادة إحياء الاتفاق النووي، تجد طهران في تراجع النفوذ الروسي بالساحة السورية، فرصة ثمينة، لتثقيل أوراقها التفاوضية في جولة جديدة من المباحثات حول النووي الإيراني.
فازدياد نفوذ طهران في الساحة السورية، سلاح ذو وجهين. إذ يمكن التلويح به من زاوية الحاجة للإيراني لحفظ أمن إسرائيل عبر بوابة الحدود الشمالية، مما سيدعم من حجة التيار المؤيد للاتفاق مع طهران داخل الإدارة الأميركية. كما ويمكن التلويح به من الزاوية المعاكسة تماماً، بمعنى أن طهران قد تهدد أمن إسرائيل، إن لم تُفضِ مفاوضات النووي الإيراني إلى خواتيم تُرضيها، مما يخلق ضغطاً على معارضِي الاتفاق داخل النخبة الأميركية بواشنطن، وداخل إسرائيل نفسها.
في هذه الأثناء، تبدو روسيا غارقة في مواجهة طويلة الأمد مع الغرب، مما يجعلها أضعف بمرات، عما كانت عليه، في الساحة السورية. ولا يمكن لموسكو التعمية على هذه الحقيقة، عبر تصعيد ميداني في الشمال الغربي، كما فعلت قبل أيام، أو الدعوة لجولة جديدة من مفاوضات أستانة نهاية الشهر الجاري.
فهذه المحاولات التي تريد بها موسكو أن تقول للآخرين: “مازلت بكامل قوتي في الساحة السورية”، لا يقرأها أولئك الآخرون كذلك. سواء كانوا الإيرانيين الذين سارعوا لاحتلال القواعد العسكرية التي انسحب منها الروس، أو الأسد ذاته، الذي أطاح بوزير الدفاع المقرّب من موسكو، علي أيوب، وسَحَب قيادة الأركان من قبضة غرفة العمليات الروسية، عبر تعيين رئيس أركان جديد لــ “الجيش”، قبل أيام.
كما أن رهان موسكو على إخافة إسرائيل، عبر تسريب أخبار انسحابها العسكري من سوريا، من خلال وسائل إعلام روسية، ليس كافياً للضغط على واشنطن، كي تغيّر من سياستها حيال الصراع بأوكرانيا. بل على العكس، فإسرائيل هي التي باتت تتعرض لضغوط من واشنطن، كي تتخذ موقفاً أكثر انحيازاً لصالح الغرب. فالصراع على تخوم أوروبا، أكثر مصيريةً للغرب عموماً، من الوضع بسوريا، حتى لو كان ذاك الأخير، هو أكثر ما يعني إسرائيل.
وهكذا، فإن روسيا تتراجع في سوريا، وإيران تتقدم. والأسد بات على ساقٍ واحدةٍ –إيرانية-، ستتحكم بحركته بصورة أكبر، في الفترة القادمة، حتى لو طمأنته بأنها تتفهم مخاوفه.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت