يكرر كثيرون وصف ما جرى ويجري في سوريا بأنه «حرب أهلية»، فيما يقول عدد أكبر منهم إنها حرب بين نظام الأسد وأغلبية من السوريين. وبغضّ النظر عن دقة التوصيف، ومستندات ومبررات كل واحد من الطرفين، فإنهما يتجاوزان أي إشارة لما حصل في سوريا، باعتباره في أحد أهم جوانبه حرب أطراف إقليمية ودولية على الأرض السورية، والأمر في هذا، إن بدا موارباً في بداية الصراع السوري، فقد أخذ يزداد وضوحاً وصراحة مع بدء التدخلات الإقليمية والدولية المباشرة في الحرب السورية، التي دفعت جنوداً ومعدات وخبراء للمشاركة في الصراع، وكان التدخل الروسي عام 2015 مثاله الواضح.
بدأت حركة الاحتجاج السورية سلمية، وقوبلت مع بداياتها بأقصى درجات العنف قتلاً واعتقالاً، ثم امتدت في اتجاهات أكثر تشدداً، ففتحت أبواب تصدي الضحايا للعدوان عليهم، وخلف هذا المشهد الذي أكده رأس النظام، كانت تتواصل خطوات متتالية في كواليس المسرح السوري، في الأهم من تفاصيلها، سعي كل من استطاع ورغب في التسلل إلى سوريا أو التمركز في الجوار القريب منها، ليس من أجل معاينة وفهم ما يجري فقط، بل من أجل كسب موطئ قدم له للتأثير على مجرياته ونتائجه، وقد وفرت الظروف المعقدة في سوريا وغالبية دول الجوار السوري فرصاً ذهبية لتسلل إقليمي ودولي تحت واجهات مختلفة إلى سوريا وحولها.
ولأن شارك مقربون من نظام الأسد النشاط السابق مع آخرين من دول ومؤسسات وجماعات في الجهة الأخرى، فإنهم أضافوا إلى ما سبق مشاركة غير مباشرة مع النظام في حربه على السوريين على نحو ما، وكان ذلك واضحاً في سلوك إيران التي أرسلت فيضاً من خبرائها إلى سوريا، فيما كان «حزب الله» يدقق ويدرس كل المعطيات ومتغيراتها في سوريا، وزادت روسيا من حجم معداتها وأسلحتها وذخائرها، وعندما عاتب المعارضون (كنت بينهم) سفير موسكو في دمشق في أنها سوف تُستخدم لقتل السوريين، أكد أن ذلك يتم في سياق اتفاقيات سابقة بين الطرفين.
كانت استعدادات الأطراف تتواصل، فتحت الحدود على مصراعيها أمام خارجين وداخلين. لم يكن ينظر للخارجين من تحت النار والملاحقة باعتبارهم مهجرين وهاربين من الحرب، وإن كان أغلبهم كذلك، بل سيوظف بعضهم باعتبارهم أدوات محلية سياسية وعسكرية لأطراف خارجية، وكان جلّ الداخلين وخاصة المنتمين لجماعات التطرف من «القاعدة»، التي أخذت اسم «النصرة» ثم «هيئة تحرير الشام» و«تنظيم دولة الخلاقة في العراق»، الذي صار اسمه اختصاراً «داعش»، أدوات لأطراف خارجية تأسيساً أو ارتباطاً؛ حيث مرّروها وسلّحوها، وقاموا بحمايتها أحياناً، لتكون في جملة أدواتهم في حروبهم السورية، وينتمي إلى ذات النسق أكراد مرّوا من شمال العراق وتركيا، وأماكن أخرى، للانضمام إلى طواقم حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) ذات العلاقة الوثيقة بحزب العمال الكردي (PKK)، التي صارت واحدة من أدوات محلية لقوة دولية هي الولايات المتحدة، وتخوض ضدها حرباً مباشرة في سوريا، وقد نظمت إيران ميليشيات «سورية»، ومثلها فعلت روسيا في تنظيم ألوية «سورية» مسلحة، وكلاهما في إطار الأدوات المحلية لقتال الآخرين على الأراضي السورية.
لم تكن الأدوات المحلية للقوى الإقليمية والدولية سوى إحدى أدوات الحرب، التي تصطفّ إلى جانب الأدوات الأخرى المسلحة من قوات عسكرية وأجهزة مخابرات، ومنها وجود مباشر للقوات الإيرانية والميليشيات الشيعية التابعة لها، وآخر للقوات الروسية وشركة المرتزقة المعروفة باسم «فاغنر»، وقوات أميركية وتركية، وقوات تتبع دولاً عربية وأجنبية، من بينها الأردن والإمارات، وقوات فرنسية وبريطانية، تعمل جميعاً في إطار التحالف الدولي للحرب على «داعش»، الذي إن قالت الوقائع إنه موجود، ويرتكب جرائمه في كثير من دول العالم، فإن التحالف العتيد لا يمارس حربه المباشرة ضده إلا في سوريا.
إن المثال الصارخ لحروب الآخرين على الأرض السورية، حرب إسرائيل على إيران وميليشياتها، ولا سيما «حزب الله» في الجهة الأخرى، التي تشمل أيضاً هجمات ضد أهداف لنظام الأسد. واللافت للنظر أنه لا تقابلها أطراف «المقاومة والممانعة» الثلاثة بردود تناسب ادعاءاتهم، وإن فعلوا فقليل من تصريحات لا معنى له، أو إطلاق صواريخ سورية، لا تحقق أي إصابات، والأهم في هذه الحرب أنها محاطة بكثير من التباسات، أولها أن روسيا صديق حميم ومشترك لكل من إسرائيل وإيران، وهي تقوم بصورة عملية بدور قناة تواصل واتصال بين الطرفين، لدرجة يمكن القول معها إنها تكاد تنظم عملية الاشتباك، وتجعل استمرارها أمراً مقبولاً للطرفين، رغم تفاوت وتناقض الأهداف حول الانتشار الإيراني وميليشياته في سوريا، خاصة في الجنوب، وثاني الالتباسات أن الحرب تتم بين طرفين، تتوافق أهدافهما في الحفاظ على وجود نظام الأسد، وإن يكن من منظورين مختلفين، يجتمعان أيضاً مع الهدف الروسي بالحفاظ على نظام الأسد، وله منظور ثالث.
وإذا كانت حروب الآخرين في سوريا بدأت على أساس التطورات السورية واحتمالاتها، فلا شك أن قاعدتها تلك تغيرت كلياً أو جزئياً حسب الأطراف المختلفة، لكنها في كل الأحوال أدت إلى تعقيدات جديدة في القضية السورية، وخاصة من حيث القوى المتدخلة ودورها في الحل، كما أثرت على مكانة واستراتيجية بعض الأطراف الإقليمية والدولية، ليس في سوريا فقط، وإنما في المنطقة، وأحياناً خارجها، على نحو ما ظهرت عليه سياسة روسيا الأوروبية وغزوها العسكري لأوكرانيا، وكلفت الحروب السوريين فواتير إضافية، جرى دفعها من دمائهم وممتلكاتهم ومستقبل بلادهم عبر معارك ليست لهم، وخلقت بنى وكيانات «سورية» تابعة لقوى خارجية، صار بالإمكان استعمالها واستثمارها خارج الحدود السورية، كما حدث مرات في العامين الماضيين، وآخرها في الحرب الجارية في أوكرانيا؛ حيث قيل إنه تم أخذ «متطوعين» سوريين للقتال على جبهتي الحرب.
بقي أن نشير إلى أن حروب الآخرين في سوريا، لم تولد بمعزل عن السوريين أنفسهم، وكان نظام الأسد قد فتح بابها على مصراعيه، عندما استدعى الآخرين لمشاركته الحرب على الثائرين السلميين بعد أن اتهمهم بالإرهاب والتطرف، وأنهم جزء من مؤامرة دولية للاستيلاء على السلطة، ودفعهم نحو التسلح والعسكرة، ثم انضم سوريون من خنادق أخرى، ليصيروا أدوات في حروب الآخرين، ولا يحتاج إلى تأكيد قول إن نهاية هذا الفصل من الكارثة السورية صار مرهوناً مثل كل جوانب القضية السورية بالإرادة الدولية، لكن وعي وإرادة السوريين بالسير في اتجاه سياسة مستقلة يساعد في الحد من تلك الحروب، ويساهم في نهايتها، والتخلص من النظام الذي شرع أبواب صيرورتها واستمرارها.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت