بتفاهم مسبق، بدأ كل من نظام الأسد و”قوات سوريا الديموقراطية”، بترتيب واقعة وهمية، لجعلها أساساً لإعادة التعاون والتحالف، وربما الاندماج، بعدما وجد كلا الطرفين نفسيهما مفلسَين وبلا حلفاء موثوقين. والواقعة التي يتم التحضير لها، هي معركة الدفاع عن مدينة منبج، وذلك بعدما تأكد لهم أن تركيا لم تستطع أن تبلغ في تفاهماتها مع الروس والأميركيين سوى إلى احتلال ريف منبج دون المدينة، وأنها ستتوقف عند جسر قره قوزاق والسد الاستراتيجي المهم على الفرات هناك، إضافة إلى منطقة تل رفعت بطبيعة الحال، التي رفع عليها الأكراد علم النظام، وكتبوا بالأحجار اسم بشار الأسد، بديلاً من اسم عبد الله أوجلان الذي رسموه سابقاً على جبال عفرين.
لقد رفض النظام في المراحل السابقة التفاوض مع الأكراد، أو منحهم أي وعود، على أمل أن يبيع قضيتهم في خاتمة المطاف لتركيا، باعتباره الوحيد القادر على إنهاء هذه القضية. لكن دخول الأميركيين على الخط، واستقطاب الأكراد سنة 2015، غيّر الحسابات جزئياً، ولم يعد تنظيم العمال الكردستاني منصاعاً لأجهزة المخابرات السورية التي سلمته جزءاً من الجزيرة السورية وفق تفاهمات مسبقة برعاية إيرانية على الأغلب. وصارت طلبات الحزب أعلى سقفاً مما يستطيع النظام تقديمه، الأمر الذي دفعه إلى التخلي مؤقتاً عن المنطقة، ومواردها النفطية والزراعية، كي لا يدخل في متاهة الحكم الذاتي، ويفتح باب المركزية الذي لن يستطيع رده مرة أخرى، من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال الغربي.
أما “قسد”، وأمام الصمت الأميركي، والتفاهم المعلن بين موسكو وأنقرة على قضم مناطق سيطرتها، فقد أيقنت أخيراً أن الزمن يتسرب من بين أيدي قادتها، كما تسرب السكان الأكراد من المنطقة وهربوا إلى إقليم كردستان وأوروبا، باستثناء حمَلة السلاح وعائلاتهم، وإن مقتل بضعة آلاف من شباب الكرد، وضياع عفرين إلى الأبد، لم يقابله أي منجز ملموس. فلا اعتراف دولياً، حتى من أقرب الحلفاء في واشنطن، ولا نفوذ إقليمياً، ولا حتى في أوساط القبائل العربية التي يسيطرون عليها في شمال شرقي سوريا. ويبدو أن لا شيء يمكن أن يستروا به هزال منجزهم في هذه المرحلة، سوى اعتراف، ولو محدود، بحقوق داخل سوريا، أو وعد على الأقل باعتراف دستوري في مرحلة ما، من طرف نظام الأسد، يستطيعون أن يستندوا عليه ذات يوم تفاوضي.
خفضُ “قسد” لاشتراطاتها، وحاجة النظام إلى الحفاظ على الورقة الكرديّة حيّة، بل وحاجته إلى المقاتلين، مع تصاعد المخاوف من انسحاب عسكري إيراني من سوريا، دفع الطرفين إلى اغتنام مناسبة العملية العسكرية التركية المرتقبة في شمال سوريا.
أرسل نظام الأسد تعزيزات غير مسبوقة إلى منبج، وأطلق رأس النظام تصريحاً ملتبساً حول التصدي للهجوم، قال فيه أن الهجوم التركي سيواجَه بمقاومة شعبية، كي لا يقول كرديّة، وحرب عسكرية من قواته حسب الظروف. وسرّ تعميته هو عدم ثقته في إمكانات جيشه، ولا بنوايا قادة “قسد”، ولا بالموقف الأميركي. فواشنطن يمكنها التدخل في كل وقت لمنع تحالف “قسد” معه.
لكن التيار الموالي للنظام، بين أكراد “قسد”، وهو جناح ينتمي إلى قنديل بشدة، بدأ الترويج منذ الآن للمعركة المشتركة في منبج، والتي سينجم عنها منع سقوط “المدينة”، وهي في الواقع نتيجة محسومة مسبقاً. وكذلك يفعل إعلام ومسؤولو النظام، لتبرير الخطوة التالية، وهي مزيد من التقارب وفق اتفاق حصل بالفعل بين النظام وحزب العمال الكردستاني، ولم يتم إعلانه بعد، وفق مصادر من داخل “قوات سوريا الديموقراطية”.
وقع أكراد سوريا في الفخ إذن، وسيجد الأميركيون المتململون ذريعة للانسحاب أو تغيير قواعد العلاقة مع “قسد” التي سيخسر قادتها كل ما تم بناؤه عبر سنوات مع المكوّن العربي في الجزيرة السورية. ومع رفع الغطاء الأميركي، سيجدون أنفسهم تحت رحمة الطرف الروسي، الذي سيستولي على النفط والغاز بالتدريج، ثم يبيع المناطق الخاضعة لسيطرة “قسد” بالتقسيط لتركيا.
لكن بين تلك النهاية ويومنا هذا، سيرقص مقاتلو “قسد” كثيراً في حلقات الدبكة التي تتغنى بـ”مقاومة العصر” في منبج، و”أسطورة” الانتصار على ثاني أقوى جيش في الناتو، بفضل التحالف بين قواتهم وجيش بشار الأسد، وهو نوع البروباغندا الذي يفلح فيه كثيراً كلا الطرفين. فنظام الأسد يحول هزائمه كل يوم إلى انتصارات، وأكراد قنديل حولوا أكبر نكبة في تاريخ جماعتهم، وهي إنهاء الوجود الكردي في عفرين، إلى “أسطورة العصر”.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت