في وقت لم يُعرف فيه مصير العملية التركية ضد قسد، بين تأكيدات تركية على تأجيلها لا إلغائها، وبين تكهنات تقول أن هناك اتفاقاً أمريكياً-روسياً على عدم السماح بها، رغم تردي العلاقة بين الطرفين بسبب أوكرانيا. في هذا التوقيت الحساس أتت الاشتباكات بين فصائل سورية “معارضة”، وكأن هذه الفصائل تعمل ضد الداعم “أو الضامن” التركي، وأرادت أن تضيف عثرات وتعقيدات إضافية أمامه، تعقيداً ميدانياً لأن قتال الفصائل أتى على تخوم خط التماس مع قسد، وتعقيدات أخرى سنوردها تباعاً.
لكي نستبعد كون الاقتتال ضد مصلحة أنقرة، يمكن أن نفترض ما يدحضه كلياً، أي أن تكون أنقرة هي التي أوعزت بالقتال بين تلك الفصائل، وهي مدركة لهزيمة “الجيش الوطني” أمام “هيئة تحرير الشام” والموالين لها ضمن الجيش الوطني نفسه! في هذه الحالة، ستكون رسالة أنقرة لواشنطن وموسكو أن أنقرة هي من يردع هيئة تحرير الشام عن توسيع سيطرتها، بمعنى أنها تهددهما بزيادة سيطرة الجهة المصنفة أكثر تطرفاً. إلا أن فوائد هذا الافتراض أقل جداً من ضرره، حتى إذا كان ينطوي على مقايضة من نوع التلويح بهيئة تحرير الشام “الموجودة على لائحة الإرهاب الدولي بقرار من مجلس الأمن”، مقابل حزب العمال الكردستاني الموجود على العديد من لوائح الإرهاب مثل اللائحة الأمريكية ولائحة الاتحاد الأوروبي.
أول ما أكدت عليه الجولة الأخيرة من القتال بين الفصائل فشلها، وفشل أنقرة من ورائها، في عملية الدمج بينها للتخلص من حالة الفوضى المريعة. جدير بالذكر أن هذا ليس مطلباً تركياً فحسب، بل هو من ضمن التفاهمات الدولية بين قوى الاحتلال الحالية، ومن ضمن أهداف الانتقال إلى مناطق النفوذ الحالية، حيث تضبط كل قوة خارجية في موقع سيطرتها اللاعبين الصغار المحليين.
الحديث عن الفوضى المريعة يتضمن كونها متعمدة، وكون الفساد من دوافعها الرئيسية. فوجود فصائل مستقلة يعني أن كلاً منها يحصل على التمويل والإمدادات بمفرده، ما يسهّل لقيادات الفصيل الاستفادة من التمويل على نحو شخصي، وأيضاً لبناء شبكة من المحسوبية والزبائنية. وسيطرة كل فصيل على رقعة من الأرض والسكان تتيح التحكم في حياة السكان، وإساءة استخدام هذه الفرصة، وقد تابعنا في أكثر من مكان التسلط على معيشة السكان، وعلى المعابر التي تربطهم بمناطق أخرى من أجل ابتزاز الأموال. أسوأ من ذلك، تابعنا العديد من عمليات الترويع والاختطاف والقتل والاغتصاب التي تساعد الفوضى على إباحتها.
هجوم “هيئة تحرير الشام” على مناطق سيطرة “الجيش الوطني” حظي بتسهيل من فصائل منضوية فيه، ومشاركة فصائل أخرى من ضمنه. ذلك ينقض من مصداقية كل ما قيل عن توحيد الفصائل، وأولاً من مصداقية أنقرة المشرفة على عملية الدمج، رغم أنها لا تتحمل أصلاً مسؤولية التشرذم الفصائلي السابق على إقامتها مناطق نفوذها الحالية. بالتأكيد هذه صورة في غير صالح أنقرة، أن يظهر هكذا “الجيش الوطني” الذي تهدد للسيطرة به على مناطق إضافية. والبيان “الفتوى” الذي أصدره “المجلس الإسلامي السوري”، محرِّماً بشكل قطعي هجوم الهيئة على الجيش، ثم ردّ الهيئة على البيان، يضيف إلى لوحة الانقسام، فها هو انقسام بين الإسلاميين يعطي مؤشراً عن العلاقة بينهم وبين من هم أقل إسلامية!
أخبار اقتتال الفصائل طغت على خبر زيارة وزير الداخلية التركي سليمان صويلو مدينة تل أبيض، حيث تجوّل في المنطقة التي ستبني فيها منظمة “آفاد” التركية بيوتاً من أجل “العودة الطوعية والآمنة والكريمة بالنسبة للسوريين في تركيا”، حسب تصريح له. والحق أن موجة الاقتتال الأخيرة بالتأكيد لن تكون مشجعة لعودة اللاجئين، إن كانت طوعيةً تماماً، فوق أنها في الأصل ملغومة باحتمالات تعرض هذا المناطق للقصف من حلف روسيا-إيران-الأسد. أي أن هذا الاقتتال هو ضد ما تروّجه أنقرة عن العودة الطوعية الآمنة، وينتقص خاصة من كونها آمنة بذاتها.
يدعو بيان المجلس الإسلامي، بعد إدانة وتحريم هجوم الهيئة على الجيش، إلى “توجيه سلاح الثورة إلى عدونا الحقيقي المشترك نظام العصابة الطائفية في سوريا”! ما يعرفه، أو ما لا يعرفه، مشايخ المجلس أن سلاح “الثورة” لم يعد منذ سنوات موجهاً ضد الأسد، ولم يكن في أي وقت موحَّداً ومنضبطاً، وإلا كان نال احترام الأعداء قبل الأقربين، وربما أيضاً نال ما هو أكثر من الاحترام.
الواقع الحالي يتلخص في أن الهدف هو الالتزام بتفاهمات أنقرة مع موسكو، أي تفادي التصعيد مع قوات الأسد، ما لم تكن هناك أوامر خارجية للطرفين أو لواحد منهما. من دون انتقاد هذه الواقعية، فإنها تجعل فصائل “المعارضة” عملياً بلا هدف أعلى تقاتل من أجله، وأقصى ما يمكن أن تصل إليه هو أن تكون جيش نظامٍ في أماكن سيطرتها، وهذا ما فشلت فيه، وأفشلت فيه راعيها التركي. والنتيجة الأخيرة متوقعة من قبل فصائل فقدت نبل القضية الأساسية، ولم تنجح محاولاتها لإحلال محاربة قسد في المكانة التي كانت لمحاربة الأسد.
خارج السياق، ننوّه بأن هدف الإبقاء على الوضع الحالي يلاقي لأسباب مختلفة رغبات النسبة الغالبة من الأهالي، بمن فيهم الواقعون تحت سيطرةٍ غير مرضية لهذه الفصائل. فالأهالي لا يريدون جولات أخرى من القتال بين هذه الفصائل، ولا أي نوع من القتال لا يعِد بالأفضل، بل يدفعون الثمن خلاله وفي محصلته.
إن واقع الفصائل الموالية لتركيا يصعب إلا أن يكون ضدها، ونفترض هنا حرص أنقرة على صورتها كضامن أمام “شركائها” في اقتسام النفوذ، ومن ذلك تقديم نموذج يصلح أن يكون له دور مستقبلي مختلف عن قوات الأسد إذا حانت لحظة التسوية أو لحظة التغيير. وأن تعمد أنقرة إلى التوسع، أو المطالبة الحثيثة به، فهذا يغلّب هواجسها الكردية، وأحياناً المزايدات الانتخابية التركية. من أجل ذلك هي تستخدم سوريين مفيدين لها من حيث الخبرة القتالية، لكن لا يمكن إلا أن يكونوا عبئاً على صورة تركيا، مثلما هم عبء على سمعة السوريين ككل من دون أن يتفردوا بذلك عن قوى الأمر الواقع الأخرى.
كم كان أفضل لو أن الفصائل المعنية أعفتنا من هذه السيرة، وتفرّغنا بدلاً منها لمتابعة أخبار الاشتباكات بين أبناء هلال الأسد وأبناء بديع الأسد!
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت