أخيراً، مع وقفة عيد الأضحى، ظهر بشار الأسد كأنه استعاد حلب. ما حدث في نهاية عام 2016، باتفاق خروج الفصائل المسلحة من الأحياء الشرقية للمدينة، كان شأناً آخر، كان انتصاراً روسياً في المقام الأول، وانتصاراً إيرانياً غير معلن. ولأنه كذلك، من المرجح أن غياب الأسد عن صورة الانتصار كان متعمداً من قبل داعميه اللذين أراد أولهما احتكار النصر بوصفه صانعه، وسعى الثاني إلى استغلال النصر بنشر ميليشياته الشيعية في المدينة على نحو غير مسبوق.
في طليعة الصور الوافدة عن زيارة الأسد، أتت صورته رفقة أسرته في واحد من الأزقة القديمة “المدمرة” للمدينة. ولهذه الصورة أهمية تفوق الصور الأخرى التي يظهر فيها بشكل رسمي، سواء في صلاة العيد، أو في تدشين إنتاج رقم بخس جداً من الطاقة الكهربائية. بإظهاره الجانب الأسري أراد بشار إبراز طابع شخصي لعلاقته بحلب، فهو لا يذهب إليها لإثبات حضور رمزي سريع، بل يذهب زائراً مقيماً لأيام كما اعتاد قبل الثورة، بل كما اعتاد قبل وفاة أبيه وتسلمه الرئاسة.
بزيارته، على هذا النحو، يستأنف “غرامه” السابق بالمدينة، وقد يكون من الخطأ الاعتقاد أنه غرام من طرف واحد، وأيضاً من دون التورط في ردّ العلاقة إلى مزاج شخصي محض. فحلب بدأت تأخذ قسطاً وافراً من اهتمام الأسد الأب مع مشروع التوريث، وكان باسل سباقاً في حياكة علاقات شخصية في المدينة، بل شاعت أقاويل آنذاك عن نيته الزواج بامرأة من إحدى عائلاتها. جزء مما أُسِّس في زمن تأهيل باسل سيستمر، لكن مع ازدياد في الزخم، ومع الظهور العلني المتكرر للوريث الجديد في أسواق ومطاعم المدينة.
بالمقارنة، كان اهتمام الأب حتى منتصف الثمانينات منصباً على دمشق، وقلّما غادر قصره فيها. نستطيع فهم اهتمام الأب بدمشق عطفاً على مبررات عديدة، منها أنه أتى إليها ضابطاً يودّ الانتماء إليها، الأمر الذي سيتحقق جزئياً مع انقلاب البعث ثم انقلاب 1966 الذي وضعه وزيراً للدفاع، ليتحقق بعد ذلك من خلال الشراكة التي نسجها مع بعض العائلات التجارية الشامية إثر انقلابه عام 1970.
تلك الشراكة لا تصب في الأوهام عن تحالف بين بورجوازية دمشقية والأسد، ففكرة البورجوازية كانت قد انتهت عملياً، وما تبقى من أثريائها لا يحيلون إلى فكرة الطبقة البورجوازية وتقاليدها. وعلى المستوى العام كانت الشام تتغير، تتغير بفعل كثافة الوافدين إليها، ليصبح “الشوام” أقلية بينهم. بعبارة أخرى نشدّد عليها؛ في دمشق تغلّبت العاصمة على المدينة.
نستطيع ردّ شطر ضخم من هذا التغيير إلى مركزية الحكم، لتصبح العاصمة مقصداً للملتحقين بالسلطة مباشرة، ومقصداً لسكان الأطراف الباحثين فيها عن كل ما يفتقدونه في تنمية غير متوازنة، وفي أماكن نائية ومنسية. مع هذا التطور، والتدفق السكاني إليها، صارت دمشق مجرد عاصمة، وتوارت الشام-المدينة. هكذا كسب الأسد الأب معركة انتمائه إلى الشام.
في غضون ذلك، لم تتعرض حلب للاختراق على الغرار ذاته، وبقيت محتفظة إلى حد كبير بثقلها التقليدي المعروف. إن تدفق أبناء الريف، على سبيل المثال، يمكن النظر إليه كحراك سكاني شبه داخلي بين المدينة وأريافها، بما فيها إدلب التي بقيت تُعدّ إلى حد ما من ضمن تلك الأرياف.
تدفقُ أبناء الريف إلى حلب لم يغيّر جذرياً في علاقات القوة ضمن المدينة، فهؤلاء اقترن وجودهم إلى حد كبير بالوظائف الحكومية، والوظائف الحزبية والمخابراتية، في حين كانت مساهمتهم في النشاط الاقتصادي بمعظمها مقتصرة على وجودهم في سوق العمل، بدءاً من الأعمال الأكثر هامشية. بقي التأثير الأقوى في المدينة، التي تُعتبر المركز الصناعي والتجاري الأول والأهم، لأولئك الذين يعتبرون أنفسهم أهلها الأصلاء، ساعدهم في ذلك تمركز السلطة في دمشق.
لا سلطة خارج دمشق، ولو فقد بشار بعد الثورة سيطرته عليها لاعتُبر حكمه منتهياً. أما ثقل حلب فيأتي من خارج تلك الرمزية التي للعاصمة، هو ثقل المدينة الأكبر المحافظة على نسيجها، فضلاً عن وصفها بالعاصمة الاقتصادية. للمقارنة، مظاهر الولاء التي ينالها الأسد في دمشق مشكوك في نسبتها للشوام لكثرة الوافدين، في حين أن المظاهر نفسها غير مشكوك فيها بالنسبة لأهالي حلب، إلا على افتراض أنهم مضطرون إليها. إنه من حلب ينال مشروعية غير قابلة للشك والطعن كما هو الحال مع الشام.
أيضاً في المقارنة، خسرت الشام معركتها مع سلطة البعث، بينما لم تُفرض على حلب المعركة ذاتها لأنها ليست العاصمة. هكذا، بقيت لوقت طويل معركةُ حلب الداخلية هي الأبرز، وهي معركة المدينة والريف، ومن الخطأ الربط دائماً بين كره الريفيين وبين النظر إليهم كـ”غزاة” للمدينة جاءت بهم سلطة البعث. واحد من التحفظات “الحلبية” المعلنة تجاه الثورة كان في ريفية الثائرين على حكم الأسد، رغم أن بعض هؤلاء المضادين للثورة من أصول ريفية، ورغم أن قسماً من الشبيحة الذين تولوا قمع المتظاهرين في حلب من أصول ريفية أيضاً.
ربما ينبغي ألا ننكر أن حلب بين عامي 2012 و2016 خاضت حربها الأهلية الخاصة، وينبغي الاعتراف بأن النسبة الأقل كانت مع الثورة. حتى مع استبعاد النسبة المعتادة في كل مكان من اللامكترثين، تبقى هناك نسبة ضخمة من الذين وقفوا ضد الثورة، وكانوا على نحو خاص ضد أولئك الذين رفعوا رايتها في حلب، بصرف النظر عن التبريرات التي ستأتي لاحقاً لتحمّل الفصائل بسلوكياتها مسؤولية نفور هؤلاء منها.
لا نجازف بالقول أن الموقع الطبيعي للنسبة الكبرى التي أيدت الأسد هو مع الأسد حقاً، ولا إكراه في هذا، ولعلنا لا نجازف بالقول أن المدينة هي مع السلطة، أية سلطة لا سلطة بشار تحديداً، مقابل التوجس من الثورة، أية ثورة تهدد بتغيير جذري. نشير هنا إلى الميل الحلبي التقليدي إلى المحافظة، وإلى الريبة تجاه كل ما هو جديد، وإلى التغني الذي لا يتزحزح بالأصالة. ضمن هذه الثقافة السائدة، يكون التغيير الوحيد المقبول هو ذاك المضمون سلفاً، الذي ليس فيه مخاطرة، ولا يتطلب معارك وأثماناً باهظة، ولا يمس في حال نجاحه الثقافة التي نشير إليها.
قد يتعين علينا النظر إلى الحفاوة التي لقيها بشار في حلب مؤخراً، وفي زياراته السابقة، كحفاوة حقيقية ناجمة عن ثقافة غير مضادة له، وغير متطلبة سوى في الحدود الدنيا. هو اجتماع طرفين مضادين للتغيير، كلٌّ منهما لأسبابه. قد يكون من الأفضل أيضاً أن نتخلى عن تلك السرديات الشائعة عن مدينة ما تزال تحت وطأة قمع الثمانينات، أو عن مدينة تتصرف برد فعل على تجاوزات الذين قاموا بالثورة، وكأن الذين قاموا بالثورة ممثلين على خشبة مسرح وملايين سكان المدينة من المتفرجين الممنوعين من المشاركة! لقد نالت المدينة فائضاً من الأعذار المخففة، ومن المحتمل جداً أن الأوان قد فات على جدوى مواجهتها بقسوة المحب.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت