قلنا في مقال هنا، في الربع الأخير من السنة الماضية، أن واشنطن استجابت لرجاءات إلهام أحمد، ووفدها الذي زار واشنطن حينها، ووعدته بالتأني والتخطيط لانسحاب بلا عقبات تزعزع مصداقية الولايات المتحدة الأميركية، كالتي تسببت بها فوضى الانسحاب من أفغانستان. لكن الأميركيين أخبروا الوفد أيضاً، وفق مصادر من داخل الإدارة، أن التزامهم ليس بلا أجل مسمى، وحدوده تقف عند نهاية العام 2022، وخلال هذه المهلة على الأكراد أن يتدبروا أمرهم مع الروس، الذين أعلنوا صراحة جهوزيتهم للتوسط بين الأكراد وأنقرة، وبطبيعة الحال مع نظام الأسد.
شهدت الأشهر التي تلت ذلك، محاولات من قيادة “قوات سوريا الديموقراطية” لإيجاد مخرج لهذا المأزق، خصوصاً مع نشوب الحرب الأوكرانية وتغير بعض المعادلات الإقليمية والدولية، مثل احتمال مناكفة الأميركيين للروس في سوريا. لكن التطورات في هذا الملف، والتي جلبت بعض الفرص، ما لبثت أن جلبت تهديدات أكبر، تمثلت في حصول الاتراك على ضوء أخضر غربي لعملية عسكرية في شمال سوريا نظير موافقتها على انضمام السويد وفنلندا إلى حلف الناتو، وأيضاً توطد التفاهمات المصلحية بين أنقرة وموسكو على خلفية عزلة الكرملين وحاجته إلى الحفاظ على علاقة الشراكة مع تركيا في الظروف الدولية السلبية التي تواجهها.
وازداد المشهد سوءاً مع المصالحات العربية التركية، ولم يعد في الإقليم من يدعم “قسد” لمجرد مناكفتها أنقرة، وتحللت كل من مصر والإمارات من التزاماتهما غير المعلنة بدعمها، بل وجهتا “قسد” إلى الطرف الذي ترغبان في تعويمه وهو نظام الأسد.
المحصلة النهائية لكل هذه التطورات، ستتبلور بشكل كامل في الخريف المقبل، عندما تعلن القوات الأميركية انسحابها الميداني من سوريا، مع المحافظة على الجهود الأمنية والاستخباراتية لتعقب تنظيم “داعش” ومكافحته عبر غارات الطائرات بلا طيار كما تفعل في مناطق أخرى من العالم.
نعتقد أن خاتمة المطاف ستتمثل في هيمنة روسية على شرق الفرات، تبتلع من خلاله استقلالية “قسد” التي تمتعت بها في السنوات الماضية، أما نظام الأسد فسيكون حضوره العسكري رمزياً، لكنه سيستعيد السيطرة على القطاعات المدنية. أما الثروة النفطية، فسيكون نصيب الأسد منها للشركات الأمنية الروسية، بينما ينال منها كل من النظام و”قسد” ما يقيم أوده فحسب.
تركيا التي ستحتل مناطق جديدة في الشريط الحدودي، ستطلق عملية تثبيت النتائج الاستراتيجية لعملياتها، وهي إسكان مهجري الداخل السوري الذين لا يرغب النظام في عودتهم، في المنطقة الحدودية، لتحطيم الخريطة الديموغرافية السابقة، وإنهاء ما كان يوصف بـ”كرديّة” المناطق الحدودية مع سوريا.
والسؤال الذي يمكن لقيادة “قسد” أن تطرحه على من ينتقدها، هو: ما الذي كان يمكنها أن تفعله؟ ما هي الخطة أو الطريق التي كان يمكن أن تسلكها لتجنّب نفسها هذا الاضمحلال الذي يجعل من وجودها واندثارها عملاً عبثياً بلا معنى؟
الإجابة البسيطة على هذا السؤال: ربما كانت المرونة. فـ”قسد” وقادتها اعتقدوا أن التهديد بداعش يعمل إلى الأبد، لم يتعلموا من الدرس الأفغاني حيث سلّمت واشنطن أفغانستان برمتها في ليلة واحدة إلى طالبان. من ناحية أخرى، هم اختاروا أن يدفعوا في سوريا فاتورة حزب العمال الكردستاني في تركيا، من دون أن يقدم ذلك الجناح أي تنازل لصالح “قسد”، كالتحرك للضغط على الأتراك، أو حتى التفاوض معهم، أو الإعلان عن فك ارتباطه بـ”قسد” أو فك ارتباطها به. من ناحية ثالثة، اختاروا مناوأة قوى الثورة السورية، ولم يسعوا بأي قدر من الجدية للاستفادة من رصيدها السياسي والأخلاقي والبشري، وبنوا جدراناً عالية من العزلة حول أنفسهم في بوادي شمال شرقي سوريا، جعلت وجودهم منفصلاً عن تيار الأحداث الرئيسي، تحت وهم الاستقلالية. وأخيراً، عزلوا أنفسهم عن التيار الاستراتيجي للأحداث الإقليمية من خلال مهادنة إيران أو حتى التحالف معها، وكان أكثر من طرف قد عرض عليهم من قبل، التحالف في هذا الاتجاه، والذي يتماشى أيضاً مع المزاعم والشعارات الوطنية التي يرفعونها، لكن بضغط من قنديل المرتبطة بطهران، فأبدت دوماً إعراضها عن الانخراط في أي نشاط من شأنه مناكفة إيران، ولو إعلامياً.
لقد أطلق قائد “قسد”، مظلوم عبدي، إعلانا كبيراً خلال اليومين الفائتين، يقول فيه أن قواته “سمحت” لقوات النظام بالانتشار في مناطق سيطرة قواته، وتدل ردود أفعال النظام وروسيا والدول الغربية، التي تجاهلت هذا الإعلان بشكل كامل تقريباً، على المكانة الثانوية التي ستقبع فيها هذه القوات، حتى تتسرب وتتلاشى نهائياً، لتنتهي هذه المغامرة إلى ما آلت إليه المغامرة التي كانت سبباً في صعود “قسد” وتمددها على مسرح الأحداث ردحاً من الزمن، وأقصد مغامرة “الدولة الإسلامية” التي آلت إلى مجموعة من القادة المشتتين والمتوارين عن الأنظار، تلاحقهم وتحصدهم الطائرات الأميركية رأساً بعد آخر، وهو ما تفعله وستفعله الطائرات المسيرة التركية بحق قادة “قسد” وكوادرها.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت