اكتسبت المناقشات المتعلقة بـ”جدل التطبيع” بين تركيا والنظام السوري بعداً جديداً بعد التصريحات التي أدلى بها الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان للصحفيين، في أثناء عودته على متن الطائرة من أوكرانيا، يوم أمس الجمعة.
وقال أردوغان إن “تركيا لا تسعى لإزاحة الأسد في سورية”، مجادلاً بأن العلاقات الدبلوماسية بحاجة إلى التمسك بها، ومضيفاً أن بلاده “لا تستطيع” قطع هذه العلاقات مع النظام السوري في دمشق، بشكل كامل.
ووفق الرئيس التركي، فإن تركيا تسير في الوقت الحالي ضمن عمليات تنسيق مع الجانب الروسي، بشأن العديد من القضايا المتعلقة بسورية، وخاصة تلك المتعلقة بـ”مكافحة الإرهاب”.
واعتبر أن “الولايات المتحدة وقوات التحالف هي التي تغذي الإرهاب في سورية بشكل أساسي”، وأن هذه القضية ناقشها مع نظيره الروسي، فلاديمير بوتين في قمة سوتشي الأخيرة. مؤكداً: “ليس لدينا أعين على الأراضي السورية. لأن أهل سورية إخواننا. ليس لدينا مثل هذه المشكلة هناك”.
وبعد أسبوع من التكهنات والجدل بأن “التطبيع” مع النظام السوري قد بدأت أولى خطواته من جانب تركيا، أعلن أردوغان أن تركيا ستحتاج إلى اتخاذ “خطوات أعلى” “مع دمشق” لإنهاء “الألعاب” الجارية في المنطقة.
وتعتبر كلمات الرئيس التركي آخر المواقف الرسمية من جانب تركيا بخصوص السياسية الحالية في سورية، والعلاقة التي ستتكشف في المرحلة المقبلة مع النظام السوري.
وحتى الآن لا تعرف تفاصيل المسار الذي قد تتخذه أنقرة حيال علاقتها مع النظام السوري، وعما إذا كانت ستتخذ “خطوات تطبيع كاملة” أم لا، فيما يبدو أن روسيا تضغط بشدة في هذا الاتجاه، وهو ما أشار إليه أردوغان، وقبله وزير خارجيته، مولود جاويش أوغلو.
هل تغيّر سياستها؟
الباحث في مركز “سيتا” المقرب من الحكومة، مراد يشلتاش نشر مقالاً تحليلياً، اليوم السبت، على موقع صحيفة “صباح”، وأجاب فيه عن سؤال: “هل تغيّر تركيا سياستها مع سورية؟“.
ويرى الباحث أن البيانات الأخيرة، سواء الصادرة من جانب أردوغان أو وزير خارجيته تشير إلى أن “تركيا تستعد لتغيير سياستها تجاه سورية في مرحلة التفاوض مع إدارة الأسد”.
لكن وعلى الرغم من هذه المحطة الجديدة، إلا أن هناك العديد من الأسئلة التي تتبادر إلى الأذهان، إذ ترتبط بأبعاد ومضمون “لقاء تركيا مع إدارة الأسد”، والأهم من ذلك “ما مدى فائدة ذلك في حل المشاكل”.
ويُفهم من تصريحات الرئيس عند عودته إلى أوكرانيا أن تركيا “تنسق” هذه العملية عن كثب مع روسيا.
كما يمكن فهمه من البيان، أنه يمكن للإطار العام للمحادثات بين النظام وتركيا أن “يتقدم من خلال الارتباط بخريطة طريق معينة بين أنقرة وموسكو”.
ومن المهم أن تدخل إيران في اللعبة في هذا الموضوع، حسب الباحث يشلتاش، لكن “إدارة طهران مترددة”، وهو ما عبّر عنه أردوغان.
وفي البداية، يبدو من غير المحتمل أن تبدأ الاتصالات الدبلوماسية المباشرة بين تركيا والنظام.
ويضيف الباحث: “في هذه المرحلة يمكن لموسكو أن تتدخل ويمكن إنشاء هيكل بالتوازي مع مسار أستانة. لذلك، قد يكون تقييماً أكثر دقة للحديث عن وجود عملية تدريجية تتقدم مع حل المشكلات، بدلاً من إعادة تأسيس العلاقات بشكل شامل في المقام الأول”.
ولهذا السبب، ليس من الصحيح تسمية هذه العملية بـ “تطبيع” تركيا مع النظام السوري، ومن هذا المنظور، يشير يشلتاش: “يمكننا أن نرى أن هناك أربع قضايا مهمة مطروحة على الطاولة”.
ما هي هذه القضايا؟
القضية الأولى: هي استمرار عملية الحل السياسي السلمي في نطاق قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254. الموقف الحالي لتركيا هو بالفعل “وفياً تماماً لخارطة الطريق المنصوص عليها في القرار المذكور”.
بعبارة أخرى، فإن كتابة الدستور وإجراء الانتخابات وإقامة حكومة مؤقتة هي ركائز القرار 2254. لذلك، فإن هدف إقامة علاقات مع النظام السوري، لا يمكن أن يستبعد عملية الحل هذه، وفق الباحث يشلتاش.
القضية الثانية: هي مكافحة الإرهاب، وبالنظر إلى أنه تم الاستشهاد باتفاقية أضنة بشكل متكرر في السنوات الأخيرة، يمكن الحديث عن وجود نص أساسي حول “مكافحة الإرهاب” بين دمشق وأنقرة.
والمنطق وراء توجيه روسيا لتركيا للنظام مبني على هذا النص الأساسي.
ومع ذلك، يضيف الباحث: “لم يتضح بعد كيفية بناء شراكة جديدة مع النظام السوري في محاربة حزب العمال الكردستاني. لذلك، من أجل حدوث تغيير في السياسة، سيتعين على تركيا أو أحد الأنظمة إجراء تغيير شامل في سياساتها المتعلقة بحزب العمال الكردستاني”.
وفي هذه المرحلة، يمكننا ذكر بعض البدائل، لاسيما أن كل هذه الاحتمالات هي قضايا “يمكن أن تنتج حلولًا قصيرة المدى”.
ومن بين الاحتمالات: تصفية النظام السوري لوجود “حزب العمال الكردستاني” الواقع على حدود تركيا من المناطق التي يتواجد فيها. ومع ذلك، سيتعين على النظام إزالة “الحزب الإرهابي” من مناطق مثل منبج وتل رفعت.
ويبدو من غير المحتمل، وفق الباحث التركي أن يقبل “حزب العمال” هذا السيناريو طواعية. في هذه الحالة، يجب على النظام السوري مطالبته بالإخلاء أو نزع سلاحه باستخدام “عناصر قسرية”.
ومن منظور اليوم، لا توجد قدرة للنظام السورية، في مقابل عدم وجود نية من جانب “حزب العمال”. والاحتمال الآخر هو أن تركيا، بدعم من النظام، “ستقوم بتطهير عسكري مع الجيش الوطني السوري ضد التهديد المشترك (حزب العمال)”.
وبالتالي، ووفق الباحث التركي “سيتم حل كل من المخاوف الأمنية لتركيا وسيتم تعزيز يد النظام ضد حزب العمال الكردستاني”.
لكن ورغم ذلك، قد لا يثمر تقارب تركيا مع النظام السوري من أجل القضاء على “حزب العمال” عن حل على المدى القصير، وذلك ما يشير إليه يشلتشاش بالقول: “لأن هناك إدارة سورية لا تتردد في استخدام حزب العمال الكردستاني ضد تركيا في نفس الوقت”.
“اللاجئون والمعارضة”
بالإضافة إلى القضيتين السابقتين هناك قضية ثالثة، وهي عودة اللاجئين الخاضعين للحماية المؤقتة من تركيا، من تركيا إلى سورية.
وهذه من أصعب القضايا، حيث أن “انتظار عودة اللاجئين إلى الأراضي التي يسيطر عليها النظام السوري، دون حل سياسي يعني عدم تعلم أي دروس من قضية اللاجئين في السنوات العشر الماضية”.
ويوضح الباحث في مركز “سيتا”، مراد يشلتاش أن “المعاملة التي يواجهها الذين عادوا إلى منطقة النظام في السنوات الأخيرة لا تبعث على السرور على الإطلاق. رغم عدم وجود عوائق أمام الحوار بين لبنان والأردن والنظام، إلا أن عودة كلا البلدين كانت محدودة للغاية”.
ويبدو من الصعب جداً السماح للاجئين في تركيا بالعودة إلى منطقة النظام فقط من خلال الاجتماع مع النظام السوري.
والأهم من ذلك، أن المضي قدماً في هذه الاتفاقية دون ربطها بخريطة طريق قد يتسبب في مشاكل أكبر لطالبي اللجوء، وخاصة في بيئة يعتبر فيها النظام أولئك الذين يسافرون إلى الخارج على أنهم “خونة”، بينما البنية التحتية مدمرة تماماً والقوة الاقتصادية للنظام محدودة.
علاوة على ذلك، تذهب القضية الرابعة إلى “وضع المعارضين والمنشقين عن النظام السوري”.
ولا يعني قبول الشروط التي وضعها النظام السوري عند نقطة “المصالحة” مع المعارضة سوى الاستسلام.
يقول يشلتاش: “لا يبدو من الممكن الجلوس إلى طاولة مع إدارة الأسد من خلال تصفية الهيكل العسكري والسياسي بأكمله، وخاصة إلقاء السلاح. لا يمكن لتركيا قبول مثل هذا الوضع”.
لذلك، بينما يوجد مثال في جنيف حيث لم يتمكن من التوصل إلى اتفاق لمدة ثلاث سنوات والنظام يتبع باستمرار استراتيجية تقوم على إطالة أمد العملية، سيكون من الصعب إنشاء نقطة اتصال جديدة بين المعارضة و النظام السوري.
علاوة على ذلك، فإن استهداف “وحدات حماية الشعب” وقوات النظام مدينة الباب بالصواريخ خلال تصريح الرئيس أردوغان (المستوى المتقدم) هو مؤشر على نظرة النظام إلى مناطق المعارضة.
ومن ناحية أخرى، من الواضح أن النظام شديد التطرف في هذه القضية. هو لا يريد أن يبدأ مثل هذه العملية قبل انسحاب تركيا من المناطق الشمالية.
وعندما يتم النظر إلى قضية المعارضة من “منظور إدلب”، يمكن أن نفهم على الفور أن الأمور أكثر تعقيداً.
ما المتوقع؟
و”ليس من الممكن إنتاج حل سريع لكل هذه المواضيع”. يقول الباحث مراد يشلتاش، مضيفاً: “علاوة على ذلك، فإن هذه المواضيع هي قضايا معقدة للغاية تهم العديد من الفاعلين، وليست مشاكل لا يمكن حلها إلا من خلال اتخاذ خطوات متقدمة مع الإدارة السورية”.
ولهذا السبب تُظهر التصريحات الأخيرة أن تركيا تريد اتخاذ مبادرة جديدة في حل المشاكل، بدلاً من إجراء تغيير إستراتيجي في سياستها تجاه سورية.
لذا فإن “أهداف تركيا لا تزال كما هي”: محاربة الإرهاب، الحل السياسي الشامل، عودة اللاجئين.
في غضون ذلك، لم يعد إسقاط الأسد هدفاً لتركيا لفترة طويلة، لذلك، لا يوجد تغيير في الإستراتيجية، فقط التكتيكات تجاه الحل قد تتغير.
ويضيف الباحث: “يبدو أن هذا صحيح في الوقت الحالي. من الصعب حل المشاكل، لكن إنشاء روابط تدريجية مع الإدارة السورية يمكن أن يخفف يد تركيا للمستقبل”.
وبوجهة نظره فإن “إدارة الأسد لديها قدرة محدودة على حل هذه المشاكل، وبالتالي فإن العلاقة الجديدة لن تجعل المشاكل تختفي بسرعة”.
واختتم الباحث مقالته التحليلية بالقول: “يبدو أنه إذا بدأت مثل هذه العملية، سيكون لروسيا تأثير كبير على إدارة الأسد وستواصل الضغط. دعونا نرى كيف ستستجيب طهران لهذه العملية؟”.