لم يكن التهديد الذي أطلقه الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، في شهر مايو/أيار الماضي بشن عملية عسكرية في شمال سورية “على حين غرّة” كغيره من التهديدات التي سبقته خلال السنوات الماضية، فقد أفضى وبالتدريج على مدى 3 أشهر عن “متغيرات ميدانية وسياسية” عدة، لينتهي عند “محطة” أثارت الكثير من الجدل، كونها ارتبطت بطبيعة علاقة أنقرة بنظام الأسد.
هذه المحطة الجدلية كانت قد أثارت أيضاً بالصورة العامة “عاصفة” استمرت لأسابيع، وبلغ أوجها خلال شهر أغسطس/آب الماضي، عندما تحدث وزير خارجية تركيا، مولود جاويش أوغلو، عن ضرورة “تحقيق مصالحة بين النظام السوري والمعارضة، بطريقة ما”، ليتبعه أردوغان معلناً أن تركيا لا تسعى لـ”تنحية بشار الأسد”، وأنها لا تستطيع قطع العلاقات الدبلوماسية مع النظام السوري في دمشق، بشكل كامل.
تحليلاتٌ وتقديراتٌ كثيرة لهذين الموقفين، إذ بينما اعتبر قسم منها أن أنقرة باتت على أبواب تغيّر واضح في علاقتها مع نظام الأسد، ذهبت أخرى للتحدث عن “تكتيك” تحاول تركيا المضي فيه، لاعتبارات “داخلية” تتعلق بالانتخابات التي تنتظرها، و”خارجية” في مسعى للتناغم مع التحولات الاقليمية بشكل خاص.
لكن وبعيداً عمّا إذا كان هناك تغير “جذري” في السياسة التركية اتجاه الأسد ونظامه، لم تستقر صورة أقرب بشأن “تساؤلات شائكة ومعقدة” تعد الإجابة عنها في صلب ما يمكن أن ينتقل إليه الطرفان، فما الذي يمكن أن يقدمه الأسد لتركيا؟. وفي المقابل، هل الأخيرة واثقة بأنها قد تحصل على أي شيء منه أو أنه قادرٌ بالفعل؟.
وقد تطرق الكثير من الباحثين والصحفيين الأتراك المقربين من الحكومة، خلال الأسابيع الماضية، إلى القضايا والملفات المشتركة بين نظام الأسد وتركيا، والتي قد تكون الأساس لأي عملية “تفاوض”، في حال بدأت مسارات “التطبيع” على أرض الواقع بالفعل.
وعلى رأس هذه الملفات: الحل السياسي في سورية بموجب قرار مجلس الأمن 2254، ملف الإرهاب و”حزب العمال الكردستاني” على طول الحدود، ملف اللاجئين، ملف المعارضين للأسد والمنشقين عنه.
“بين تهديد وتهديد”
قبل أن تصل الأمور بتركيا للحديث عن العلاقة الحالية والمتوقعة مع النظام السوري، كانت قد مرّت قبل ذلك وعلى مدى 3 أشهر بسلسلة من المحطات، سواء على الميدان أو على طاولات السياسية.
وبعد أن هدد أردوغان، في الثالث والعشرين من شهر مايو/أيار، بشن العملية العسكرية الجديدة وأنها ستستهدف مدينتي تل رفعت ومنبج في ريف حلب، سرعان ما لاقى موقفه معارضة من الولايات المتحدة الأمريكية، وشركائه في مسار “أستانة”، الروس والإيرانيين.
مع ذلك، شهدت جبهات الشمال السوري “عمليات تسخين”، إذ بينما حشدت القوات التركية وفصائل “الجيش الوطني السوري” تعزيزات على طول خطوط التماس مع “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، تتالت التهديدات التركية على لسان المسؤولين، مع تأكيدات أن المعركة ستكون “بين ليلة وضحاها”.
فيما بعد، تطورات الأمور يوماً بعد يوم، لتتحول إلى حوادث قصف متبادل واستهدافات جوية بالطائرات المسيّرة، قتل إثرها قياديون وعناصر في “قسد” و”وحدات حماية الشعب”، إلى أن انتقل المشهد بدخول قوات النظام السوري على الخط، منتشرة في مناطق الأخيرة، بموجب “تفاهمات”، لطالما كانت حاضرة، بالتوازي مع العمليات التركية السابقة، مثل “غصن الزيتون” (2018) و”نبع السلام” (2019).
“لم تحصل تركيا على الضوء الأخضر”، في ذلك الوقت لبدء الهجوم، حسب ما أشار إليه مراقبون، لتأتي “قمة طهران” الثلاثية، في شهر يونيو/حزيران، وتأكد على أن التهديد التركي ما يزال “يواجه معارضة روسية-إيرانية”، بعيداً عن الموقف الذي أبدته واشنطن، الداعمة لـ”قسد”.
وكان لافتاً في “قمة طهران” النبرة الإيرانية المعارضة لأي هجوم تركي، وهو ما أشارت إليه كلمات المرشد الإيراني الأعلى، علي خامنئي، قبيل بدئها بساعات، ثم تصريحات لوزراء خارجية إيران وموسكو، معتبرين أن أي تغير في الميدان، من شأنه أن “يهدد استقرار المنطقة”.
في مقابل ذلك سادت نبرة غير مسبوقة، رددها مسؤولون إيرانيون أولا، مقترحين “الوساطة بين أنقرة والنظام السوري لمعالجة الأوضاع الأمنية على طول الحدود”، ليتردد صدى ذلك فيما بعد إلى الجانب الروسي.
لم يطرأ أي تغيّر عقب “قمة طهران الثلاثية”، رغم أن ميدان الحدود الشمالية لسورية مع تركيا بقي “ساخناً”، مع توجه الأتراك لتكثيف ضربات الجو والأرض على المناطق الخاضعة لسيطرة “قسد”، وخاصة في محيط عمليات “نبع السلام” و”درع الفرات”.
وبالتوازي مع هذه الظروف، حينها، واصل المسؤولون الأتراك تصريحاتهم حول العملية العسكرية، وأنها ستستهدف بالفعل “تل رفعت ومنبج”، إلى أن جاءت القمة الثنائية في موسكو بين أردوغان ونظيره الروسي فلاديمير بوتين، في سوتشي مطلع أغسطس/ آب الماضي.
وفي القمة كان الملف السوري حاضراً بقوة على طاولة الزعيمين، وأيضاً العملية العسكرية التركية، وبينما كانت الأنظار تتجه إلى ما سيؤول عليه المشهد في سورية بعد اللقاء، خرج أردوغان متحدثاً عن “مقاربة” أخبرهُ بها بوتين.
مفاد هذه “المقاربة” بأن “الأمر سيكون أكثر دقة إذا كنت تفضل حلّها مع النظام السوري قدر الإمكان”. وأضاف الرئيس التركي مخاطباً بوتين (صاحب تلك الكلمات): “نحن نقول إن جهاز استخباراتنا يتعامل بالفعل بمثل هذه القضايا مع المخابرات السورية، لكن بيت القصيد هو الحصول على نتائج”.
وقبل حديث أردوغان كان وزير خارجيته، مولود جاويش أوغلو، قد قال إن تركيا أجرت سابقاً محادثات مع إيران بخصوص إخراج “الإرهابيين” من شمال سورية، وأنها “ستقدم كل أنواع الدعم السياسي لعمل النظام (السوري) في هذا الصدد”.
وعاد جاويش أوغلو بعد كلمات “المقاربة”، ليضيف أنه “من الضروري تحقيق مصالحة بين النظام السوري والمعارضة، بطريقة ما”، بينما كشف عن لقاء عابر جمعه مع وزير خارجية نظام الأسد، فيصل المقداد، في أكتوبر/تشرين الأول عام 2021.
وفتح تتالي هذه المواقف “اللافتة” وبفارق توقيت بسيط من الجانب التركي باب جدل كبير، لاسيما داخل أوساط السوريين في ريف حلب ومحافظة إدلب، حيث شهد الشمال السوري لأسبوعين “غليان شعبي”، تمثل بخروج مظاهرات، رفض فيها المشاركون أي مصالحة مع النظام، بينما انتقدوا “التغير” الذي أشارت إليه تصريحات المسؤولين الأتراك، وبالخصوص جاويش أوغلو.
ورغم أن الخارجية التركية نشرت بياناً أوضحت فيه موقفها من الملف السوري، وأنها تدعم الحل السياسي بموجب قرار مجلس الأمن “2254”، بقيت حالة الشك قائمة، إلى أن جاءت تصريحات أردوغان بعد عودته من أوكرانيا، أواخر أغسطس/آب الماضي، لتزيد من هذه الحالة إلى حد كبير.
“ما بعد النبرة الجديدة”
أعطت كلمات الرئيس التركي بأنه بلاده لم تعد تهدف إلى “تنحية الأسد”، وأنه من الضروري عدم قطع العلاقات الدبلوماسية مع أي جهة، بما فيها دمشق مؤشراً على “تغيّر طرأ على صعيد السياسة الخارجية لتركيا حيال النظام السوري”.
وبينما خفتت تهديدات العملية العسكرية التي كانت شرارتها الأولى في شهر مايو/أيار طوال شهر آب/أغسطس، إلا أن أردوغان عاد ليرددها، مع الدخول في شهر سبتمبر/أيلول الحالي، مؤكداً نية بلاده المضي فيها.
لكنه أضاف في سياق آخر أن “النظام السوري لم يتطور ولم يطوّر أي موقف اتجاه المنظمات الإرهابية الانفصالية في سورية”.
جاء هذا الحديث الجديد من الرئيس التركي، بعدما رد وزير خارجية النظام السوري، فيصل المقداد بقوله إن “دمشق تثمن الجهود التي تبذلها روسيا وإيران بهدف إصلاح ذات البين بين سورية وتركيا”، مضيفاً أن “هناك استحقاقات لابد أن تفي بها أنقرة”.
كما أكد المقداد في مؤتمر صحفي مع نظيره الروسي، سيرغي لافروف في موسكو، 23 آب/أغسطس، على “ضرورة أن تنسحب تركيا من الأراضي السورية وتوقف دعمها للتنظيمات الإرهابية”.
وما بين هذين الموقفين المستجدين، اهتز الميدان على طول الحدود الشمالية لسورية لثلاث مرات، أولاً بعدما نفذت طائرات حربية تركية قصفاً على نقطة عسكرية في عين العرب بريف حلب، ما أسفر عن مقتل عناصر للنظام السوري وآخرين من “قسد”، في 16 أغسطس/آب الماضي.
والمرة الثانية، في التاسع عشر من ذات الشهر، أثناء القصف الذي نفذته قوات الأسد على مدينة الباب بريف حلب الشمالي، أسفر عن مقتل وإصابة عشرات المدنيين، وصولاً إلى الحادثة الثالثة التي فرضتها الطائرات الحربية الروسية، بقصفها لمناطق مأهولة بالسكان في إدلب (يوم 22 أغسطس/آب).
حديث في الهواء؟
حتى الآن لا تبدو أي إشارات” على أرض الواقع، تشي بأن “عملية التطبيع” بين أنقرة والنظام السوري بدأت أو أنها ستبدأ في المرحلة القريبة، فيما تسود ضبابية كبيرة حول الملفات والقضايا التي طرحت كأساس المضي بأي خطوة إلى الأمام.
ويجادل مراقبون تحدثوا لـ”السورية.نت”، أن كل ما حصل، خلال الأيام الماضية، لا يمكن أن يختصر بمعادلة “أنقرة-النظام السوري” فقط، بل هناك روسيا التي تعتبر المحرك لكل ما سبق.
وبالنظر إلى قضايا مثل ملف اللاجئين “حزب العمال والإرهاب”، “الحل السياسي”، تطرح تساؤلات بشأن ما الذي يمكن أن يقدمه الأسد لتركيا؟ وهل هو قادر وينوي بالفعل تحقيق أي خرق؟.
في المقابل، هناك تساؤلات تتعلق بتركيا على نحو أكبر، مثل: هل مقتنعة بالفعل أنها ستحصل على أي شيء من خلال تطبيع علاقاتها مع الأسد؟ وإن تم ذلك. هل تثق بقدرته على تقديم مطالبها؟
يرى الدبلوماسي السوري السابق، بسام بربندي أنه “لا يوجد أي شيء مشترك بين تركيا والنظام السوري. سواء في السياسة أو المصالح أو الاستراتيجية أو التحالفات أو العقيدة”.
ويقول بربندي لـ”السورية.نت”: “كلا الطرفين غير قادرين على إعطاء أي شيء للطرف الآخر”، معتبراً أن “النظام السوري غير قادر أن يقضي على حزب العمال الكردستاني، ولا يريد استيعاب اللاجئين، ولو في إدلب فقط”.
في المقابل “لا قدرة لتركيا على التنازل في ملف إدلب أو ملف الإرهاب وحزب العمال، أو حتى على ملف اللاجئين المقيمين على أراضيها. هي تحصل على 7 مليار دولار من خلالهم”، حسب بربندي.
وبذلك يقود المشهد الذي حصل على مدى الأسابيع الماضية من “جدل التطبيع”، إلى فكرة مفادها أن “الطرفان يتحدثان في الهواء”، كما يعتبر الدبلوماسي السوري السابق.
ويضيف أن أسباب التصريحات التركية الأخيرة لها “دوافع داخلية. الحكومة تريد أخذ نقاط قوية من معارضيها، وخاصة التي تتعلق بملف اللاجئين. هي تقدمت خطوة للأمام من أجل سحب هذا الكرت”.
علاوة على ذلك، يشير الدبلوماسي السوري السابق: “النظام السوري وحيد، رغم الدعم الإيراني والروسي له. هو غير قادر على تقديم أي شيء لتركيا، والأخيرة لا تثق به ولن تسلم له أي مكتسبات”.
“ما يحدث شيء سيريالي نتيحة تقاطعات سياسية لها علاقة بالداخل التركي”، وفق بربندي.
“أسباب داخلية وخارجية”
في غضون ذلك يوضح الباحث في الشأن التركي، سعيد الحاج، أن هناك أسباب كثيرة “داخلية وخارجية” تدفع أنقرة لقبول الحوار مع النظام السوري، في هذه الفترة على الأقل.
وتتعلق الأسباب الداخلية بجزء أساسي بالانتخابات والعوامل المتعلقة والمؤثرة بها، والموضوع السوري من بوابة اللاجئين أو مكافحة الإرهاب، فـ”تركيا تريد تحقيق إنجاز في هذه الملفات”، وفق الحاج.
ويضيف الباحث لموقع “السورية.نت”، أن الأسباب الخارجية تتعلق بالعلاقة مع روسيا، فضلاً عن نقطة ثالثة أساسية تتعلق بأن العملية العسكرية التي هدد بها أردوغان تنتظر فكرة “التفاهمات السياسية”.
“على المستوى الميداني واللوجستي أتمت تركيا استعداداتها، كما أعلنت أكثر من مرة، لكن على المستوى السياسي يبدو أن روسيا وإيران وتحديداً موسكو مازالت لا توافق، وبالتالي تخشى تركيا أن يتحول الاعتراض الروسي إلى تعقيدات ميدانية، وبذلك تسديد كلفة العملية ويطول أمدها وتكون خسائرها كبيرة”.
ومن ضمن كل هذه الظروف، وبغض النظر عن مدى الثقة بالنظام السوري، يوضح سعيد الحاج أن “تركيا ترى فسحة أو نافذة يمكن أن تستثمر فيها، وأن أهداف العملية التي وضعتها تركيا لإبعاد قسد من الحدود بعمق 30 كيلومتراً يمكن أن تتحقق من خلال المسار السياسي”.
ووفق الباحث “هنا ليس التعويل على النظام، وقد لا يكون تعويل عليه، بل قد يكون على المحادثات مع روسيا، خصوصا أن هذه الفترة أفضل من السابق، وأن هناك زيادة في الأدوار التي تلعبها تركيا لموسكو على هامش الحرب في أوكرانيا والوساطة المتعلقة بالحبوب”.
يؤكد الحاج أن “التعويل التركي على العلاقة مع روسيا وليس على النظام السوري”.
علاوة على ذلك، فإن “تركيا لا ولن تضع كل بيضها في سلة النظام السوري. هي تضع يدها على الزناد كما يقال. لم تلغي فكرة العملية العسكرية تماماً بل تلوح بها. استعداداتها الميدانية موجودة، وعملياتها مستمرة من قصف ومكافحة وضربات”.
وفي الفترة الحالية مازالت أنقرة في محاولات الحديث مع موسكو.
ويشير الباحث إلى أنها “تعطي فرصة-على أقل تقدير- لإمكانية تحقيق بعض هذه الأهداف. لاسيما الهدف الأساسي المرتبط بالانتخابات، وهو إعادة مليون سوري إلى شمال سورية”.
ويتابع الحاج: “هذا الهدف يرتبط بشكل أو بآخر بالنظام السوري، كونه يُفترض أن يكون منطقة آمنة، وبالتالي على النظام أن يتوقف من قصفه لها. هذا الأمر قد تراهن تركيا فيه على الحوار المباشر مع النظام أو مع روسيا، وبالتالي عودة السوريين بما ينعكس إيجابا على الانتخابات وفرص أردوغان والعدالة والتنمية فيها”.