تبدو صورة سوريا التي يحاول النظام تسويقها متناقضة تماماً مع واقعها، فليس ثمة ما يوحي بوجود مساحة للترف والرفاهية، ليس ثمة متسع للغناء والموسيقا، ليس ثمة فسحة للفرح.
سيبدو ذلك واضحاً في عيون جميع السوريين، ولكنه يظهر بوضوح أكبر في عيون الخاضعين لسيطرة العصابة الحاكمة، وفي كلامهم، في أوجاعهم العميقة، في يأسهم اللامحدود، وبشكل أكثر وضوحاً في محاولات السوريين الحثيثة للهرب إلى أي مكان في العالم، فعندما يكون حلم المواطن اليوم هو الخروج من بلده مهما كانت مخاطر ذاك الخروج، فذلك يتناقض تماماً مع الصورة الوردية التي يحاول النظام أن يرسمها ويظهر من خلالها سوريا أخرى، سوريا تضج بالنشاطات الفنية والفعاليات الثقافية والموسيقية، سوريا التي تستضيف مطربين وموسيقيين ليقيموا حفلاتهم فوق المقابر الجماعية، وفوق أقبية المعتقلات، فتعلو أصوات غنائهم فوق أنين المعتقلين المكتوم، وصرخات المعذبين، ووسط دائرة من الدمار تحيط بسوريا من شرقها إلى غربها، من شمالها إلى جنوبها..
كل حفلات الموسيقا التي تقام في سوريا اليوم، تنضوي في إطار ما يمكن تسميته بالفرح السياسي، بالنشاطات الدعائية ذات الطابع الفني، الموسيقا الجنائزية الشامتة باختناقات السوريين وعذاباتهم وانسداد أفقهم وضياع حاضرهم ومستقبلهم، والنغمة الوحيدة الحقيقية التي تعبر عن سوريا تتجسد في إيقاع الموت الروحي الذي يحاصر السوريين الناجين من الموت الجسدي.
ولكن نظام الأسد لا يأبه لذلك كله، فما يعنيه بالدرجة الأولى هو تثبيت انتصاره المزعوم بصرف النظر عن قسوة الوسائل والأساليب وقبحها، في مقارنتها مع واقع السوريين واحتياجاتهم وأزماتهم وجوهر مشكلتهم ومأساتهم.
واستكمالاً لحلقات الدبكة المحلية التي كان النظام يقيمها على أطراف بحيرة الدماء التي حفرها منذ بداية الثورة وملأها بدم السوريين، يبدأ اليوم بتوسيع مساحة تلك الدبكة، وتوسيع دائرة السخرية والاستهتار بأرواح الناس وآلامهم، فيقوم بدعوة فنانين عرب وعالميين ليشاركوه في تثبيت روايته ويغنوا ويرقصوا لجمهور غالبيته من أمراء الحرب التابعين للعصابة في زحمة انشغال المواطنين في البحث عن مهرّب.
بعض الحريصين على حضور تلك الحفلات من غير الفئة المستفيدة، هم أولئك التائهون الباحثون عن اقتناص لحظات فرح مزيفة، أو الذين يحاولون الهرب إلى أي مساحة تخرجهم ولو قليلاً من حالة اليأس والعبثية وانعدام الجدوى، وليسوا بأي حال مواطنين لديهم رفاهية ارتياد المسارح وأماكن الغناء والطرب.
لا يمكن لعصابة أدمنت امتصاص الدماء أن تجد وقتاً للموسيقا، أو تستمتع بلحظة فنية، أو تجذبها حالة روحية، ولكن حرصها على إقامة تلك الحفلات هو نوع من التنكر بملابس البهجة التي يحاول النظام اليوم أن يقنع العالم بحقيقتها رغم زيفها الظاهر وغير القابل للإخفاء.
ينظر الأسد إلى إقبال الفنانين العرب والأجانب على سوريا وقبولهم دعوات الغناء فيها، على أنه مبايعة له، مبايعة غير مباشرة تعطي انطباعاً برضا النخبة العربية والنخب العالمية عنه، وقبوله رئيساً شرعياً، وهو هدفه الوحيد من تلك الاستقطابات.
أما الفنانون الذين يقبلون دعوات الأسد، فهم إما مغيبون أو متواطئون أو انتهازيون لا يترددون في استثمار اللحظة السياسية مهما كانت تكلفتها الإنسانية والأخلاقية مرتفعة، وبعضهم لا يجد عملاً أو فرصة لإقامة حفلة في بلده أو في أي بلد آخر، فيجد في قدومه إلى سوريا فرصة مواتية للارتزاق والتكسب بصرف النظر عن مدى تلوث مكان الحفل ومدى إجرام القائمين عليه.
وفي هذا السياق برزت شخصيات كثيرة كان أهمها جاكي شان، الممثل الصيني الموالي للحكم الديكتاتوري في بلده، والذي جاء إلى سوريا ليصور فيلماً على أنقاض منطقة التضامن وفوق جثث الضحايا دون أي اعتبار لأنين الدم الذي لا يزال يسمع صداه في اللوكيشن.
فنان آخر هو هاني شاكر والذي لم يعد له جمهور حتى في بلده، فلم يتردد في الموافقة على قبول دعوة الأسد دون أن يسأل زملاءه الفنانين المقيمين في مصر مثل أصالة نصري وجمال سليمان وكندة علوش، لماذا لا تستطيعون العودة إلى بلدهم أو حتى زيارته.
ومن ثم تفتق ذهن العصابة عن فكرة أوسع وأكثر طموحاً وهي دعوة الفنان اليوناني العالمي “ياني”، من أجل توظيفه لصالح دعاية الأسد، ربما لم يطلّع الفنان اليوناني على ما حدث في سوريا إلا من خلال الدعاية الدولية التي تروج لانتصار العصابة على الإرهاب، ولكن ذلك لا يعفيه من المسؤولية، فمن غير المنطقي أن تكون فناناً عالمياً من حيث الانتشار والشهرة، وأن تكون محلياً في إدراك قضايا العالم.
من الواضح أن النظام ماض في خطته وفي حملته التي تهدف إلى طمس الحقائق دون مراعاة للظروف الحالية التي تمر بها سوريا، فرغم تواصل الضربات الإسرائيلية المذلّة، ورغم فقدان النظام القدرة حتى على الاحتفاظ بحق الرد، إلاّ أن ذلك كله لم يلعب أي دور في التقليل من حالة انتشاء الأسد بشعور النصر الذي يعيشه وكأنه حقيقة لا تقبل الجدل، ولم يخفف من عنجهيته، ولم يدفعه لمراجعة انتصاراته والتحقق من واقعيتها، بل إن مشاعر الانتفاخ والتورّم لديه تزداد وتتفاقم إثر كل قصف تنفذه إسرائيل فوق الأرض السورية، حيث يوظف الأسد تلك الضربات في تحديث ادعاءاته عن الممانعة والمقاومة، وتأكيد حالة العداء المزعومة مع إسرائيل، وتثبيت دور الضحية الذي يلعبه لكسب تعاطف قسط كبير من الجمهور السوري والعربي ممن تنطلي عليهم خدعة النظام الممانع.
ومع شعور الأسد المتزايد في هذه الفترة بأن الثورة أصبحت خلف ظهره، وأن مخاطر إزاحته قد تلاشت تماماً، وأنه بات جاهزاً للانتقال إلى الخطوة التالية، وهي مرحلة التطبيع والتلميع وإعادة الإنتاج واسترجاع الشرعية والإعلان عن سوريا متعافية من خطر الثورات، ومقبلة على مرحلة تثبيت التوريث والأبدية، فهو يضع عنواناً بارزاً للمرحلة الحالية يمكن تلخيصه في فكرة استقطاب المشاهير، بهدف المساهمة في طي ملف الإجرام، وتثبيت روايته، وفتح صفحة جديدة يظهر فيها وجهه الحضاري المنفتح على الفن والموسيقا، وعلى الآخر، وإظهاره كرئيس حريص ليس فقط على بلده بل على رفاهية شعبه أيضاً.
لقد وظف النظام فنانيه المحليين منذ بداية الثورة للمساهمة في تغيير حقيقة الحدث، ولكن دورهم الآن لم يعد مهماً أو مفصلياً، فما يحتاجه النظام اليوم هو شهادات من شخصيات خارجية تبدو كأنها حيادية ومع ذلك فهي تهتف باسم سوريا الأسد وتمجد الانتصار على الإرهاب.
وفي السياق ذاته، لا يوفر النظام ضيوفاً شبه محليين مثل المطربة اللبنانية نجوى كرم، المطرب جورج الراسي، وغيرهم، ممن يعتقد أنهم قادرون على المساهمة في إعادة تدويره وإعادة ضبط المصنع وإعادة عقارب الزمن إلى ما قبل العام ٢٠١١ وكأن شيئاً لم يحدث في سوريا.
يعرف الطغاة جيداً قيمة الإعلام والدعاية والبروباغندا ودورها في اختلاق حقائق بديلة وتثبيتها، ولهذا وضع النظام خطته الحالية ساعياً لتحقيق هذا الهدف، لا يهم الأسد نغمة النشاز التي تثقب سمع السوريين ولا عجزه عن إيجاد أي توافق هارموني بين الواقع وتلك النشاطات التي يقيمها، لأنه لا يفرق بين صوت الآلات الموسيقية وصوت البراميل المتفجرة، لا يفرق بين آهات مغن تسكره نشوة الطرب، وآهات مصاب أو معتقل، ولا يهمه من هو الفنان الذي يغني له ولا مستوى الفنانين المدعوين، ولا طبيعة مساهماتهم الفنية، فكل ما يهمه هو تصدير الصورة المخملية المزيفة لبلد أرهقه النزيف.
من جاكي إلى هاني وياني، تتتابع قوافي الموت والتكالب على الشعب السوري ودعم قاتله، من خلال البازارات السياسية التي تلتحف بغطاء الفن والموسيقا، ولكنها في حقيقتها نوع مستحدث من الغازات السامة التي تحاول خنق الحقيقة وطمس معالم الجريمة وتنظيف المكان من بصمات الجاني وتحويله إلى راع للمحبة والفن، وتصدير الفنانين الذين فقدوا ارتباطهم بالإنسانية وارتضوا أن يضعوا أنفسهم تحت تصرف القتلة سواء عن معرفة أو جهل أو تجاهل.
وبينما يتلهف ملايين السوريين للعودة إلى بلدهم أو حتى مجرد زيارته دون أن يتمكنوا من ذلك، وبينما لا يزال ملايين المهجرين يسكنون الخيام ويعانون الجوع والبرد، وبينما يطرد مئات الفنان من بلدهم ويُخونون ويهددون بمصير محتوم فيما لو تجرؤوا على الاقتراب من تراب وطنهم، تعلو أصوات حفلات السمر في بلد غاب عنه قسراً معظم أهله، وتفتح أبوابه على مصراعيها لكل من يقبل بشهادة الزور ويرتضي أن يكون جزءاً من الزيف، لا عذر هنا لأي مشارك في تلك المهزلة، فلا شيء يمنعهم من الوصول إلى الحقيقة إن أرادوا.
لا تزال المأساة السورية في ذروتها، ولا يزال الكثيرون يساهمون في استمرارها، ولا يزال صانع المأساة الأساسي يحاول أن يضع نهاية سعيدة للتراجيديا التي لا تبدو لها نهاية.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت