“روسيا هي، على الأرجح أوّل بلد في العالم يهرب منه أهله بعدما غزا بلداً آخر وليس بسبب تعرضه لغزو من بلد آخر”. هذه العبارة هي لميخائيل خوردوفسكي رجل الأعمال الروسي الذي كان من القريبين من فلاديمير بوتين في مرحلة معيّنة. وما لبث بوتين أن غضب على خوردوفسكي وسجنه عشر سنوات قبل أن يطلق سراحه ويسمح له باللجوء إلى خارج روسيا.
يختزل هذا التعليق لرجل الأعمال الروسي اللاجئ إلى ألمانيا ما حلّ بروسيا في ضوء القرار القاضي بغزو أوكرانيا بحجة أنّها قررت الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي (ناتو). هناك عشرات آلاف الروس يهربون إلى دول مجاورة من بينها جورجيا بسبب قرار فلاديمير بوتين القاضي بالتعبئة العامة في ضوء الهزائم التي لحقت بالجيش الروسي في أوكرانيا.
يتجاهل الرئيس الروسي هذا الواقع. لعلّ أوّل ما يتجاهله أنّ لا وجود لمواطن روسي يريد القتال في أوكرانيا. في نهاية المطاف ما الذي يدفع مواطناً روسياً إلى القتال في أوكرانيا؟ يطرح المواطنون الروس سؤالاً بديهياً، يبدو أنّه لم يخطر ببال الرئيس الروسي: ما الذي فعلته أوكرانيا كي تستأهل حملة عسكريّة، ذات طابع تدميري لمدن بكاملها، بدأت في الرابع والعشرين من شباط (فبراير) الماضي؟ لا جواب لدى فلاديمير بوتين عن مثل هذا السؤال باستثناء أنّه يريد استعادة أمجاد روسيا وأمجاد الاتحاد السوفياتي من دون أن يأخذ علماً بأن الشعب الروسي مستعد لبذل الغالي والرخيص عندما يتعلّق بالدفاع عن أرضه وليس بغزو بلد آخر من دون سبب باستثناء إثبات أن روسيا عادت قوّة عظمى، فيما على العالم الاعتراف بذلك من دون سؤال أو جواب.
كلّ ما في الأمر أن فلاديمير بوتين ليس سوى مغامر لا يعرف شيئاً عن العالم وعن موازين القوى فيه. يكتشف الآن أن أوكرانيا ليست سوريا. كان مسموحاً له في مثل هذه الأيام من العام 2015، حين تدخل مباشرة في سوريا، بقتل عشرات آلاف السوريين بدم بارد استجابة لما تريده “الجمهوريّة الإسلاميّة” في إيران الحريصة على نظام بشّار الأسد. لكنه ليس مسموحاً له في العام 2022 بغزو أوكرانيا نظراً إلى أنّها دولة أوروبيّة قبل أي شيء.
هرب فلاديمير بوتين من هزيمته الأوكرانيّة إلى استفتاء ضمّ بموجبه أربع مقاطعات أوكرانيّة إلى روسيا. هذا ليس مخرجاً من الحرب الأوكرانيّة بمقدار ما أنّه هروب من مأزق. لم يمضِ يوم على ضمّ بوتين رسمياً المقاطعات الأوكرانيّة الأربع حتّى شنّ الجيش الأوكراني هجوماً على مدينة ليمان في شرق أوكرنيا. اضطر الجيش الروسي إلى إخلاء تلك المدينة ذات الموقع الاستراتيجي. كانت تلك إشارة إلى أنّ بوتين لا يمتلك الوسائل التي تمكّنه من تنفيذ السياسة التي قرّر اعتمادها.
المخيف أنّ ليس لدى الرئيس الروسي ما يردّ به على فشله وحساباته الخاطئة غير التصعيد. ليس التصعيد سياسة. لم يكن سياسة في أيّ يوم، خصوصاً عندما لا يمتلك من يريد التصعيد القدرة على ذلك. يصعب على الرئيس الروسي اللجوء إلى السلاح النووي، رغم أنّ ذلك وارد. أمّا بالنسبة إلى سلاح النفط والغاز الذي يهدّد به بوتين أوروبا، فإنّ أوروبا قررت الاستغناء عن الغاز والنفط الروسيين مهما كلّف ذلك من تضحيات.
هناك مراعاة أميركيّة لبوتين. تعود هذه المراعاة إلى الرغبة في تفادي عمل جنوني يمكن أن يقدم عليه لا أكثر. عمل من نوع استخدام السلاح النووي وإن بشكل محدود. ما عدا ذلك، تعتبر واشنطن أن الرجل انتهى. المسألة مسألة وقت ليس إلّا. يتعلّق الأمر بكلّ بساطة بأن بوتين يريد خوض حرب يرفض الروس خوضها. كان هناك في البداية شعور وطني مؤيّد له. لكنّ الأمور تبدلت بمجرد فرضه التعبئة الجزئيّة التي تعني بين ما تعنيه إرسال العائلات الروسيّة ابناءها للقتال في أوكرانيا من دون سبب وجيه ذي بعد وطني.
يمكن القول بكلّ راحة ضمير أنّ فلاديمير بوتين انتهى سياسياً. يعود ذلك إلى أنّه لم يترك لنفسه فرصة للتراجع. خاض مغامرة خاسرة سلفاً. لم يدرك معنى شنّ حرب على أوكرانيا من جهة والبعد الأوروبي لمثل هذه الحرب من جهة أخرى. لم يدرك خصوصاً معنى عزل روسيا عن العالم. متى سيدفع ثمن مغامرته المبنيّة على حسابات خاطئة منذ البداية؟
من المفيد العودة إلى تجربة الزعيم السوفياتي نيكيتا خروشوف الذي افتعل في العام 1962 أزمة الصواريخ التي أرسلها إلى كوبا. كادت تلك الأزمة تتسبب بحرب عالميّة بعدما أصرّت إدارة جون كينيدي على منع تلك الصواريخ من بلوغ كوبا التي هي على مرمى حجر من الأراضي الأميركيّة. دفع خروشوف ثمن مغامرته في العام 1964 عندما خرج من السلطة ليحل مكانه ليونيد بريجنيف. لا تشبه المغامرة الأوكرانيّة لبوتين غير المغامرة الكوبيّة لخروشوف. لم يعد مطروحاً هل انتهى بوتين أم لم ينتهِ. المطروح كيف سيكون خروجه من السلطة ومن سيتولى إخراجه في غياب آلية حزبية كما كانت عليه الحال أيّام الاتحاد السوفياتي السعيد الذكر؟
المصدر
النهار العربي
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت