تؤشر الأخبار الواردة من محيط معبر “أبو الزندين” في ريف حلب الشمالي الشرقي، إلى أن مشروع افتتاح المعابر للنشاط التجاري بين الشمال السوري “المعارض”، ومناطق سيطرة النظام، برعاية تركية – روسية، قد استؤنف. وهي فرصة لمناقشة جملة تساؤلات، تتعلق بدايةً بأهمية هذه المعابر وفق معايير التجارة الخارجية التركية، ومن ثم بجدواها في مسار التقارب المزمع بين أنقرة ودمشق، بوصفها مقدمة للتطبيع الاقتصادي بين الطرفين. وأخيراً، وفي ضوء موازين القوى وتعقيدات المشهد الفصائلي، يأتي أكثر التساؤلات إلحاحاً: هل يمكن لتلك المعابر أن تتحول إلى ركيزة استقرار في شمال غرب سوريا، أم العكس؟
ولمحاولة الإجابة على أول التساؤلات، من المفيد أن نفهم كيف أثّر النفوذ التركي على حجم الصادرات التركية إلى سوريا؟ فبعد الثورة عام 2011، وإثر اتخاذ أنقرة موقفاً ضاغطاً على النظام، ومن ثم مناوئاً له، هوت الصادرات التركية من نحو 1.8 مليار دولار (وفق أرقام عام 2010)، إلى أدنى مستوياتها في العام 2012، عند نحو 500 مليون دولار. لكن حجم الصادرات التركية أخذ بالارتفاع لاحقاً، بعد سيطرة الفصائل المعارضة على المعابر الحدودية مع تركيا، وعلى مساحات واسعة من الجغرافيا السورية، بدءاً من العام 2013، ليستقر حجم الصادرات قرب وسطي 1.3 مليار دولار سنوياً، منذ العام 2015. وهو المعدل المرتقب تسجيله في نهاية العام الجاري أيضاً. لكن يبقى هذا الرقم بعيداً بنسبة الثلث عن حجم الصادرات التركية إلى سوريا، عام 2010. كما أن نسبته من إجمالي الصادرات التركية، هو أقل بكثير مما كان عليه قبل 12 عاماً. ففي عام 2010، كانت سوريا تستورد نحو 1.6% من إجمالي الصادرات التركية. لكنها في العام الجاري، ووفق أرقام نهاية الربع الثالث، استوردت فقط نحو 0.55% من إجمالي الصادرات التركية. ولو عادت العلاقات إلى طبيعتها كما كانت قبل 2011، فإن من المفترض أن تقفز الصادرات التركية إلى سوريا من 1.3 مليار إلى نحو 3.9 مليار دولار أمريكي، وفق تصوّر أوّلي. وما يدعم هذا التصور، أن تقديرات غير رسمية متداولة ضمن مجتمع الأعمال التركي تشير إلى أن مناطق شمال غرب سوريا، تستأثر بنحو ثُلثَي إجمالي الصادرات التركية إلى سوريا. ومن الصعب تقدير حجم البضائع التركية التي تتسرب من تلك المنطقة –تهريباً- إلى مناطق سيطرة النظام. لكن يمكن الجزم بأن حجم تلك البضائع سيتضاعف إذا أصبح من المتاح إدخالها بصورة قانونية، وعبر معابر رسمية، بدلاً من التهريب. إلا أنه، حتى لو تحقق ذلك، يبقى أثر نمو حجم الصادرات التركية إلى سوريا بمعدل الضعفين –مثلاً-، ضئيلاً، مقارنة بالحجم الإجمالي للصادرات التركية (نحو 188 مليار دولار حتى نهاية الربع الثالث من العام الجاري).
لكن المكاسب المتحققة لتركيا من معابر الشمال السوري، يمكن لها أن تتجاوز السوق السورية. إذ كانت سوريا قبل العام 2011 بوابة البضائع التركية إلى الخليج، برّاً، بتكاليف أقل من النقل الجوي والبحري. وذاك هو المكسب الأكبر الذي تراهن عليه تركيا، لكنه يبقى مرهوناً بتطور نوعي في مسار “التقارب” بين أنقرة ودمشق. وهو ما ينقلنا إلى ثاني التساؤلات: هل يمكن لمعابر الشمال السوري، إن نشطت تجارياً، أن تكون مقدمة لتطبيع اقتصادي بين الطرفين؟ إذا أخذنا التجربة الأردنية – السورية بعد افتتاح معبر نصيب، كنموذج، فإن المكاسب التجارية بعد أكثر من سنة، كانت مخيّبة للآمال، مقارنة بالضجيج الذي سبق ورافق افتتاح المعبر المذكور. ناهيك عن المشكلات التي تتكرر كل بضعة أسابيع، والتي تعيق حركة التجارة جراء عدم الثقة بين سلطات الحكومتين على جانبَي المعبر، وما ينتج عن ذلك من قيود، وإجراءات تفتيش مضاعفة، وخلافات حول الرسوم، وسواه. لذا، فإن الرهان على دور للمعابر في تطبيع اقتصادي كامل بين تركيا ونظام الأسد، يبدو مبالغاً فيه. خاصة في ظل الملفات المعقّدة العالقة بين أنقرة ودمشق، مقارنة بملفات أقل تعقيداً بين دمشق وعمّان.
وبالانتقال إلى آخر التساؤلات، يمكن الإقرار بأن المخاوف من أن تفجّر المعابر الرسمية حرباً فصائلية جديدة في شمال غرب سوريا، ليس مبالغاً بها. إذ أن تلك المعابر كانت المحرّك لمعظم حالات الاقتتال الفصائلي على مدار العقد الفائت. وهي السبب العميق للاقتتال الأخير أيضاً. وحتى مع التغيّر النسبي في موازين القوى بين الفصائل، إثر الفصل الأخير من الاشتباكات، تبقى لدى الفصائل المتضررة القدرة على تعطيل أية مشاريع إن لم يتم إشراكها فيها. ويبقى نجاح مشروع افتتاح معابر تجارية، في الشمال السوري، تمرّ عبرها البضائع التركية إلى العمق السوري، وقفاً على نجاح أنقرة في تحقيق استقرار أمني مستدام في تلك البقعة من الجغرافية السورية. وهو أمر لم تتمكن من إنجازه منذ إعلان ولادة “الجيش الوطني” عام 2017.
وهكذا، قد تنشط التجارة عبر معبر أو أكثر بين مناطق سيطرة النظام، وشمال غرب سوريا. لكن الحصيلة النهائية قد تتجاوز بشكل محدود فقط، تلك التي كانت قبل العام 2020، حين تم إغلاق المعابر جراء تفشي وباء كورونا. إذ أن تحقيق نمو نوعي في النشاط التجاري مع سوريا، يؤثر في حجم التجارة الخارجية التركية، يتطلب تحولات نوعية سياسية وأمنية، قد لا يكون من المتاح إنجازها في المدى القريب أو حتى المتوسط.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت