عبر التاريخ؛ بعد أن تُحتلَّ المدن من قِبل عدو خارجي أو يتِمُ سَلبُ السلطةِ من قِبل أقليةٍ دينية أوعرقية أو حتى أسرةٍ حاكمة؛ تنتشرُ حالة من الجمودِ الاجتماعي بين مكوناتها، ويُمَهِد هذا الجمود لحالاتٍ من القمعِ الشديد لأيِّ شيء يُخالِف شَكلَ السُلطةِ الديكتاتورية الجديدة، ولا يأتي القمع فرداً بل يَصطِحبُ معه الفساد الذي يؤدي إلى نهب خيرات البلاد وتدني مَعيشةِ أفرادِ المجتمع، مما يودي بهم إلى الفقرِ بمُختَلَفِ طبقاته وأنواعه، وذلك يُفضي إلى حالةٍ من التذمُّرِ بين الشعبِ وتَدني الأوضاع أكثرَ فأكثر، وهنا يأتي السؤال ممن فقدوا الأمل بتغيير الديكتاتور : هل ستنتفِضُ هذه الجماهير لجوعها يوماً؟ وإن انتفضوا فهل سيكونُ حراكُهم ثورة؟
الاستبداد … بداية النهاية
لايقومُ الاستبداد ويستمر في البيئةِ نفسِها التي جاءَ ليحكُمَها، بل يُغيِّر الديكتاتور أو المُحتل جذرياً في طبيعةِ المجتمعِ الذي يُسيطر عليه، فهو يرى أنه من الضروري إعادة هندسةِ المجتمعِ والدولة ليناسِبا استمرارَه وبقاءَه، ومن مقوماتِ استمراره، إرضاءُ من أوصَلَهُ إلى السلطةِ من تجارٍ أو ضُباطٍ أو حتى علماءِ دين لِفترةٍ وجيزةٍ حتى يُثبِت وجوده ، وبالتالي تُصبح مهمته مزدوجة بين إرضاء حاشيته وتغيير تركيبة المجتمع وقمعه، فيُطلِق يدَ أتباعه في المجتمع قمعاً وسرقة ونهباً وفساداً وتُصبِح الدولةُ تُشبِه الدولة الرومانية القديمة التي انقسَمَت إلى طبقة أمراء وطبقة عبيد.
في بدايات القرن الماضي، انتشرت في المنطقة موجةُ التنويرِ المطالبة بالاقتداءِ بالغرب في شتى مناحي الحياة، لكي تستطيع الدولة والمجتمع مواكبة تطورهم أو التداول الديمقراطي في انتقال السلطة مثل أفكار رشيد رضا، ولكن ما لَبِثَ أن تحولت هذه الموجة في سبعينيات وثمانينيات القرن نفسه إلى أداةٍ يستخدمها الديكتاتور لمحاربةِ المجتمع عبرَ إعطاءِ الدولةِ مساحاتٍ للمطالبين بالتنوير، ليواجهوا التيار المحافظ الذي اعتُقِل أغلبه وأصبح مُفَكِروه مفرَقين بين سِجنٍ أو منفى أو مقبرة، مما دَفَعَ بعض المفكرين التنويريين أن يؤمنوا باستحالة اجتماع الأمن والحرية؛ لذلك هم بحاجةٍ إلى نظامٍ مستبدٍ يُنهي الحراك المحافظ المتطرف حسب رأيهم ويَضعُ البلادَ على سكة التنوير التي تودي بها إلى صف الدول الغربية.
ولكن سُرعان ما انقلبَ النظامُ على مفكريه التنويرينَ فأصبحوا إما يجاورون أعداءهم المحافظين في السجون أو تخلَوا عن أفكارهم وأصبحوا بجانب الحاكم أو المُحتَل في مؤتمراته وأداة لشرعنته وزيادةِ قبوله في المجتمع، مثل مافعل جابر عصفور (من روّاد تيار التنوير في مصر وأصبح لاحقاً وزيراً للثقافة بعد انقلاب 2013)، إذن لا يُمكِن لقمعِ أو استبداد أن يجعلَ فئةً من المجتمعِ مهما كان توجهها حرةَ دائماً، لأن الحُكمَ الديكتاتوري يقتات على شعاراتِ الايديولوجيا وينتَقِل بينها ويمتطي أتباعها ليأكُلَهُم لاحِقاً، ويحوِّل المجتمعَ كاملاً إلى مقموعين يلاحِقون حياتَهم اليومية ليُحَقِقوا أساسياتها من طعامٍ وشرابٍ ومسكنٍ بعيدين عن مستوىً آخرٍ من حقوقهم الفكريةِ أو المادية.
الخُبزُ جزءٌ مِن الكرامة
تنطلق الانتفاضات والمظاهرات دائماً مطالبةً بالإصلاحِ ثم الحريات، وقد تتطور لتطالبَ بإسقاطِ المنظومة الحاكمة، بسبب فقدان الأمل لدى الجماهير من إمكانية إصلاحها، ومفهومُ الحريةِ والكرامةِ هو مفهومً عريضً يحوي جُزئيات كثيرة تبدأ بحقوق الفرد السياسية حتى حقوقه الفكرية وانتهاءً بأصغرِ وأهم تفاصيل حياته من طعامٍ وسكن، ولايُمكَن فَصلُ سياق الحرية عن باقي تفاصيلها، ولايمكن للجائع أن يَخرُجَ ثورة من أجل لقمته فقط متناسياً كلَّ تفاصيل حياته الأخرى، فلن يطالب أحدٌ بخُبزِه ويَغيبُ عن ذاكرتِه أخوه أو عمه المُغيَّب في السجون، أو لن يطالب مُتظاهِرٌ من أجل عملٍ أو وظيفةٍ ولا تكونُ جَماجِم أصدقائه الذين قَتَلهم المستبد حاضرةً في ذهنه. وكما يقول إريك هوفر في كتابه “المؤمن الصادق”، أنه “لا يمكن للجياع أن يكونوا ضمن الحركات الجماهيرية لأنهم يَعُدون كلَّ وجبة إنجاز، والنوم بمعدة ممتلئةٍ انتصار، وأيُّ وَفرَةٍ مُعجزة، لذلك الصراعُ اليومي للبقاء على قيد الحياة يحفِزُ على الجمودِ لا على التمرد”، فمن يطالب بحقوقه المعيشية هو نفسه الذي يطالِبُ بحقوقِه السياسية أو الفكرية لأن كِلا الصيحات واحدة لدى النظام الديكتاتوري لأنهما تحمل ضمنياً رسائلاً تَنُصُّ على أن وجوده مهددُ من قِبل أشخاصٍ رفضوا سياسيات فساده الفكري والاقتصادي، ومابعد حالات الاحتلال والاستبداد وانحدار المجتمع وهشاشة الدولة يُطرَحُ التساؤل: هل هناك ثورة جياع في سورية؟ في لبنان؟ في مصر؟ لن يتظاهرَ أحدٌ لكونِه جائعاً فقط؛ فقيمة الحياة بالفطرة مقدمةُ على هَدَفِ تحصيلِ الطعام، فقد يبقى الإنسان أياماً مختبئاً خوفاً على حياته ويأكُل من حشيشِ الأرض ولا يخرج ليبحث عن طعامه خوفاً على حياته من ذئبٍ مفترسٍ هو بالتأكيد أكثرُ إنسانية من أيِّ نظامٍ حاكمٍ مستبدٍ حالي.
من المريح للحاكم المستبد أو المحتل أن يجعل الثائرين عليه مُعلَبين ضِمنَ أُطُرٍ جاهزةٍ ليُقصي بعضهم بعضاً ويتحولون إلى معارضة تتفاوض معه، ثم يَكسَرها تِباعاً ويُقصيها مع مرورِ الوقت بعد أن كانت ثورة هدفها جذريٌّ غير قابلٍ للتفاوض، وهو إزالة هذا النظام أو المُحتل، فلكلِّ ثائرٍ أدواتُه وأساليبُه بما تتناسب مع بيئتِه الفكريةِ والجغرافية، فلا يمكن أن يُفرَضَ حَملُ السلاحِ على الطبيب أو البروفيسور أو أن يفرض على العسكري أن يقوم بخطاباتٍ رنانة ليُثبت ثوريته ووطنيته، فلكي تتراكم الخبرات في الثورات يجب أن تُحتَرَمَ خصوصيةُ أفرادِها ومهاراتهم، وإلا تحولّت تلك الثورة إلى حركاتٍ نازيَّةٍ تَصهرُ كلَّ أفرادِها في رؤيةِ زعمائِها وتُقصي مهاراتهم وتفرض عليهم أسلوباً وفكراً وطريقاً واحداً ليبقوا في دائرة إيمانهم بتلك الحركة، وهذه الحركات وأسلوبها تدفع المجتمعَ باتجاه حرب أهليةٍ داخليةٍ بين أبناءٍ القضيةٍ الواحدة المُتفقين على هدفهم البعيد والمُختلفين على رفاهياتهم الفكرية، في حين يترقبُ من خرجوا ضده لتنتهي تلك الحرب العبثية بينهم الإعلامية كانت أو الفكرية أو حتى العسكرية ليُجهِز على من نجا منها ويَقضي عليهِ معنوياً ثم جسدياً.
ختاماً، كل صيحةٍ ضد مستبدٍ أو محتلٍ هي ثورةٌ ولو كان مُطلِقُها فرداً لاحول له إلا صوته و لا أداة له إلا فكره، ومجموع تلك الصيحات هي الثورةُ العامة التي لاشيء يجمعُ أبناءها إلا الهدف البعيد وهو تغييرُ الوضع الحالي من جذوره، وعادةً ماتكون مدة التراكُم الثوري تتناسب طرداً مع الأمَدِ الذي بقي فيه الديكتاتور على رقبةِ شعبه، وفي نفس الوقت تتنوع الأدوات ضده بناءً على ما اكتسبه أبناءُ الثورةِ من تجاربٍ وخبراتٍ جاءَت من زيادة معرفتهم بنفسهم أولاً وعدوهم ثانياً، فالثورات الحقيقية لاتموت بل تتراكم الأدوات فيها وتتطور وتتبلور حول الهدف البعيد وهو إسقاط الزُمرة الحاكمة وتُبقي هوامِشَ المستبد وهوياته المشوهة المُفرِقة للشعبٍ بعيداً عن لُبِّ حراكهم
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت