يسخر بعض المعارضين من الدعوة إلى العصيان المدني التي انتشرت في الداخل السوري في النصف الأول من شهر كانون الأول الجاري، ويتجاهلها آخرون قصداً، لأنها لا ترقى إلى مستوى ثورة، وهم يتناسون أنّ دعوة مشابهة لها كانت أول إشارة أمل للتغيير، وبداية مبكرة للثورة السورية، بل أول حجر يصوب إلى جدار الخوف السوري الشامخ، أقصد بذلك الدعوة التي أطلقها كل من رامي نخلة وهنادي زحلوط في كانون الثاني 2011 والتي أثارت دبابير الإعلام الأسدي، يومها، فشنّ عليهما تلفزيون الدنيا حملة افتراء طالت شخصهما..
يخطئ من يظن أن الانتفاضات المعيشية أو الإضرابات المدنية أو العصيان المدني ليست من السياسة بشيء، ويخطئ أكثر، من لا يعتبر العصيان المدني لأي سبب كان (سواء كان الجوع أو انعدام الكهرباء أو بسبب فقدان القدرة على التنقل) عملاً مضاداً للثورة.
مشكلة بعض كتابنا ومثقفينا أنهم استسلموا لقالب فكري صنعته ظروف محددة، فما عاد بإمكانهم التفكير خارجه.. التهمتهم فكرة الثورة بنمط محدد صورته تكونت من مفردات حراك السنة الأولى من الثورة السورية أو السنوات الثلاث الأولى، توقفوا عند شعار الشعب يريد إسقاط النظام أو هتاف “يحرق روحك” كأنما هي شعارات خالدة أو مقدسة لا يمكن ابتكار سواها بما يناسب الظرف الموضوعي في الداخل السوري..
والحقيقة أن الثورة أنواع والسياسة تستغرق الحياة، والاحتجاج والعصيان والإضراب هي خيارات سياسية أيضاً استخدمتها الشعوب مراراً قبل أن تلجأ إلى الثورة. هنا يمكن القول إن الثورة استثناء، والقياس على الاستثناء أو تبعاً له مشكلة، فهل نرهن حياتنا -مستقبلنا على وجه الخصوص- لحالة- استثناء حدثت مرة واحدة في تاريخ سوريا خلال قرن؟
قد يكون القول مفاجئاً إنّ السوريين أجبروا على الثورة، أجبرهم النظام على الثورة، وإن كانت النخبة قليلة العدد التي تحركت قبل آذار وفي آذار ونيسان نزلت إلى الشارع تحمل في ذهنها صورة ثورة تونس ومصر، صورة جاهزة عن الثورة، لما ينبغي أن تكون عليه الثورة، لكن عموم الشارع السوري تحرك بشكل تدريجي “منطقي” فطرح مطالب لإصلاح النظام ولوقف الفساد وقطع أصابع رامي مخلوف المتحكمة بسوق الاتصالات والمتلاعبة بنصف الاقتصاد السوري، فما كان من هذا الأخير إلا اللجوء علنا ودون خجل إلى”قميص إسرائيل”.. وهنا تغيرت اللعبة ونزل النظام بكامل وحشيته إلى الشارع ليقتل الناس الأمر الذي عجّل في توسع التظاهرات وتحولها إلى المطالبة بإسقاط النظام وظهرت التنسيقيات الثورية في كل حي وبلدة.
أما سوريا اليوم فوضعها مختلف بشكل جذري تقريبا، النظام مفكك، ضعيف، دون أي داعم اللهم إلا إيران المنهكة هي أيضا، والمحاصرة بدورها، والتي تتوسع ثورتها الشعبية يوما بعد يوم، أما الروس فلقد رفضوا مساعدة النظام ماليا أو بتروليا، وهو على الأغلب ما تسبب في الأزمة المعاشية الحالية، انعدام الكهرباء، وندرة المشتقات البترولية وتوقف حركة النقل وإغلاق المنشآت الخاصة والعامة، حتى الأفران بدأت في الإغلاق، وقريبا ربما المدارس، ومنح النظام عطلة إضافية ليوم واحد وكذلك أصدر قرارا بمنح عطلة في الأسبوع الأخير من هذا العام.
أما الناس فقد وصلوا إلى الجدار، إلى القعر الذي ليس بعده سوى الموت جوعا أو بردا، فلم يعد لديهم ما يخسرونه لو أعلنوا العصيان المدني أو الإضراب العام.
إجراءات النظام أصلا هي ما تدفع وتساعد على إعلان الإضراب العام، لذلك فالدعوة للإضراب العام التي يجري تداولها في الداخل منذ أكثر من أسبوع هي في محلها، فقد أغلقت كل المنافذ أمام الناس.. وليس أمامهم سوى البقاء في بيوتهم ينتظرون الفرج أو الموت البطيء.
يبقى شيء وحيد، أن يصل الناس الخائفون، الذين يسمون خطأ “موالين”، وهم بالحقيقة المرعوبين الأكثر كراهية للنظام منا نحن المبعدين أو البعيدين عن البلاد منذ عشر سنوات ويزيد، فالناس في الداخل هؤلاء “الموالين” قد تشبّعوا بكراهية النظام لاسيما بعد حادثة “ريكار اللاذقية” ووصل قهرهم إلى درجة لا توصف، درجة الشلل والمرض على ما تظهره صورة وصوت وملامح الفنان وضاح حلوم في استنجاده ببشار الأسد، ليخلصه من هذه المأساة المعاشية التي لا سابق لها في تاريخ الأنظمة العربية، وكان باديا حجم الغضب في ريف اللاذقية بعدما استدعت قوات الأمن للتحقيق عدداً من مديري المدارس التي كتبت على جدرانها عبارات معادية للنظام.
يبدو اليوم أن خطوة واحدة متبقية ما بين الموالين الخائفين المرهقين المذلولين وممثلهم وضاح حلوم، وما بين تكسير عظام أي شخص يمثل النظام سواء كان شبيحاً أو رجلَ أمن، إنها خطوة أو شعرة تفصل ما بين الظلام والنور، ما بين السذاجة والمنطق، ما بين الخديعة والحقيقة .
إن مهمتنا كثوريين ومعارضين ولاسيما كإعلام معارض هو تخليص الموالين من هذه الشعرة، من خرافة وبعبع الداعشي الذي “ينتظر ليذبحهم حالما سقط النظام” كليا وفعليا، يجب أن يشعروا أن همنا الوحيد نحن أبناء الثورة كان وما يزال تحريرهم من خوفهم وخديعتهم التي أحسنت تركيب مفرداتها ونسج أسطورتها قوى النظام الإعلامية والدعائية والأمنية، وأننا مثلنا مثلهم على السواء، سوريون نريد الحياة لنا جميعا، دون خوف أو استغلال من أحد ودون تبعية لأحد أيا كان هذا الأحد.
إننا ننتظرهم ليعبروا الجسر بأنفسهم.. فلا نشوش عليهم ولا نسخر أو نمتعض.. فأهل المكان والزمان أدرى بأنفسهم.. وهم إن تحرروا فلأنفسهم ولمصلحة أولادهم.. ولكننا سنكون سعداء بإنقاذهم أنفسهم، لأن في ذلك إنقاذاً لنا جميعاً نحن السوريين.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت