قبل أن يتمكن لبنان من جني أي فوائد كبيرة من احتياطيات الغاز والنفط البحرية التي يفترض أنها “مربحة”، سيتعين على الدولة المتعطشة للطاقة حل نزاعها على الحدود البحرية مع سورية.
وتتداخل المناطق البحرية للبلدين بنحو 750 كيلومتراً مربعاً، بما في ذلك منطقة منح فيها النظام السوري عقدين لشركتين روسيتين، لبدء التنقيب عن النفط والغاز في المنطقة.
وكان لبنان قد حلّ في أكتوبر/تشرين الأول الماضي نزاعه البحري مع إسرائيل بموجب اتفاق توسطت فيه الولايات المتحدة، مما مهد الطريق لعملاق النفط الفرنسي “توتال إنرجي” و”إيني” الإيطالية لبدء التنقيب عن الغاز الطبيعي في حقل “قانا” في المياه الجنوبية للبلاد.
ومع ذلك، إلى أن يتم ترسيم الحدود البحرية للبنان مع قبرص وسورية بشكل واضح، ستظل الشركات مترددة في الاستثمار في التنقيب عن الغاز والنفط في بقية المنطقة البحرية اللبنانية، مما يترك غالبية احتياطيات البلاد المحتملة، غير قابلة للوصول.
وقبرص، بعد أن أزال الاتفاق الذي توسطت فيه الولايات المتحدة مخاوفها من إغضاب إسرائيل، أصبحت الآن جاهزة لترسيم حدودها مع لبنان. لكن المناطق البحرية في لبنان وسورية وقبرص مرتبطة بنقطة واحدة، مما يستدعي رأي سورية في الأمر.
وقال الياس بو صعب نائب رئيس البرلمان اللبناني والمفاوض الحدودي بعد توقيع اتفاق الحدود بين لبنان واسرائيل: “لن نحدد الحدود مع قبرص حتى نتواصل مع سورية”.
بدوره يقول سامي نادر، مدير معهد المشرق للشؤون الاستراتيجية ومقره بيروت لموقع “ميدل إيست آي” إن لبنان الذي يستورد 97 في المائة من إمداداته من الطاقة، له “قيمة هائلة”.
وتشير التقديرات إلى أن الاحتياطيات البحرية القابلة للاسترداد تحتوي على 25.4 تريليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي، وهي جزء من حوض بلاد الشام المربح، بما يقدر بـ 122 تريليون قدم مكعب من الغاز القابل للاستخراج، و1.7 مليار برميل من النفط القابل للاستخراج.
وقال لوري هاتيان، مدير منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في المعهد الوطني لإدارة الموارد، ومقره نيويورك، إن جولة المزايدة على التنقيب في الكتل الثمانية المتبقية في المنطقة الاقتصادية الخالصة البحرية اللبنانية ستغلق في 15 ديسمبر.
ومع ذلك، أشار هاتيان إلى أنه من غير المرجح أن تستثمر الشركات في الحدود البحرية “التي لا تزال غير واضحة”.
وأضاف سامي نادر: “الشركات العالمية تريد ترسيماً رسمياً بين الحكومات. وبدون نوع من الترسيم لن تأتي أي شركة”.
“الوقت لم يكن مناسباً”
وقبل يومين فقط من الموعد المقرر لزيارة المسؤولين اللبنانيين لسورية في نهاية تشرين الأول (أكتوبر) لمناقشة الحدود البحرية، ألغت حكومة النظام السوري الزيارة في رسالة بعثت إلى وزارة الخارجية اللبنانية قائلة إن “الوقت غير مناسب”.
وقال جوزيف ضاهر، الأكاديمي المتخصص في سورية ولبنان: “ستستغرق سورية وقتها للتوصل إلى اتفاق يكون في صالحها أكثر”.
وأخفقت جلسة التصويت الأخيرة لمجلس النواب اللبناني، في 15 كانون الأول (ديسمبر)، لاختيار المرشح الرئاسي المقبل مرة أخرى في التوصل إلى توافق حول خليفة محتمل للرئيس السابق ميشال عون.
وقال لوري هاتيان إن سليمان فرنجية، المتحالف مع “حزب الله”، وصديق شخصي لعائلة الأسد، هو “المرشح الطبيعي” لسورية للرئاسة.
في الشهر الماضي، أيد رئيس الوزراء المؤقت، نجيب ميقاتي، ترشيح فرنجية لمنصب الرئيس. ومع ذلك، لم يظهر اسمه في الاقتراع خلال التصويت السابق في 8 ديسمبر.
زعيم “حزب التيار الوطني الحر” في لبنان جبران باسيل، صهر الرئيس السابق عون، هو أيضاً مرشح محتمل للرئاسة، لكنه أقل دعماً من قبل سورية من فرنجية.
وأوضح هاتيان أن “سورية لم ترغب في إعطاء أدنى مؤشر على استعدادها للتحدث مع جبران باسيل في أي شيء، خاصة على الحدود البحرية”. ومن هنا كان سبب إلغاء زيارة الوفد اللبناني علناً.
وأضاف أن ترسيم الحدود اللبنانية السورية سيعتمد في نهاية المطاف على “البنية السياسية في لبنان لفهم نوع الحوار الذي سننتقل إليه”.
“أداة ضغط سورية”
في غضون ذلك أوضح سامي نادر أن النظام السوري قد يحاول استخدام اتفاق ترسيم الحدود “كوسيلة ضغط للضغط على الحكومة اللبنانية، من أجل وضع أنفه في السياسة اللبنانية”.
لطالما انخرطت النظام السوري في الشؤون السياسية والاقتصادية للبنان، “حيث احتل لبنان منذ اندلاع الحرب الأهلية عام 1976 حتى 2005”.
وأضاف نادر “لسورية نفوذ كبير على الحكومة اللبنانية”.
وأشار إلى أنه “خلال احتلال سورية الذي دام 29 عاماً، استخدمت بشكل متكرر مراقبة الحدود كأداة ضغط، وغالباً ما كانت تمنع التجارة من العبور من لبنان إلى دول الخليج والعراق”.
وتابع: “تاريخنا [سورية ولبنان] هو تاريخ فتح وإغلاق الحدود”. الصفقة البحرية هي نفسها.
من جانبه قال لوري هاتيان إن “سورية لا تريد أن يكون اتفاق ترسيم الحدود مع لبنان صفقة قائمة بذاتها”، بينما علق ضاهر بأن النظام السوري قد يستخدم صفقة حدود بحرية لمطالبة لبنان “بالاعتراف الكامل” (بالحدود) أو ترسيخ التعاون الأمني مع جارتها.
ولم تتوصل سورية ولبنان بعد إلى اتفاق بشأن حدودهما البرية المشتركة، مما يشير إلى التقدم البطيء المحتمل في ترسيم حدودهما البحرية.
والتعيين الإقليمي لمنطقة تعرف باسم “مزارع شبعا”، عند تقاطع الحدود السورية اللبنانية ومرتفعات الجولان، غير واضح منذ الانتداب الفرنسي، ولا يزال لبنان غير قادر على الحصول على اعتراف من سورية بأن الأرض هي أرض لبنانية.
وقال سامي نادر: “مسألة الحدود مائعة للغاية عندما يتعلق الأمر بلبنان وسورية، ودائماً ما كانت لصالح السوريين”.
“مطلوب نعمة روسية”
وأضاف نادر أنه في حين أن سورية ولبنان ليسا في حالة حرب رسمياً، فإن علاقتهما متوترة، مما يفتح سؤالًا حول من سيتوسط في اتفاق ترسيم الحدود.
مع فرض عقوبات على روسيا في أعقاب غزو أوكرانيا، وخضوع سورية لعقوبات قيصر التي فرضتها الولايات المتحدة، والتي تعاقب أي كيان أجنبي يتعامل مع الحكومة، قد تتردد العديد من الدول في التفاوض على صفقة تفيد موسكو أو دمشق.
واعتبر الباحث: “لن يكون هناك من ييسر هذه الصفقة”.
وكان النظام السوري قد وقع اتفاقيات مع شركتين روسيتين: “كابيتال أويل جروب” وشركة شرق المتوسط عمريت التابعة لسويوز نفط غاز، للتنقيب عن النفط والغاز في مياهها الإقليمية – التي تتداخل مع لبنان، بحسب الاقتصادي السياسي السوري، كرم الشعار.
تم توقيع اتفاقية الاستكشاف البحرية الأصلية في عام 2013، وهي جزء من عقد مدته 25 عاماً لروسيا لاستكشاف الأراضي السورية، في مقابل تدخل موسكو العسكري لدعم الحكومة.
وقال شعار نقلاً عن تقرير “فورين بوليسي”، إن مالك رأس المال الروسي هو يفغيني بريغوزين، وهو مقرب من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ورئيس مجموعة فاغنر، وهي منظمة شبه عسكرية روسية.
لكنه أشار إلى أنه لم يتم إجراء استكشاف “ذي مغزى” في المياه البحرية لسورية، بل إن روسيا “تضع يدها على الكتلة”، لاستكشاف موعد رفع العقوبات.
وأشار ضاهر إلى أن قطر يمكن أن تكون وسيطاً محتملاً في صفقة بحرية لبنانية – سورية، بالنظر إلى حصتها المحتملة في حقل “قانا” للغاز الطبيعي، المحدد في الصفقة الأخيرة بين إسرائيل ولبنان.
من جهته اعتبر سامي نادر أن “تورط روسيا في المياه السورية يعني في النهاية أن نعمة الكرملين مطلوبة للمضي قدماً، على الرغم من أن المناخ السياسي الحالي يترك نعمة غير مرجحة”.
وأضاف: “روسيا لن تحبذ اتفاقاً يمهد الطريق لبديل للغاز الروسي لأوروبا”.