إن قوة الإرادة للشعب السوري، ابتداءً من أول صيحة للحرية، إلى كفاحه ونضاله ضد النظام و حلفائه، فصبره على مشقة الحياة و النضال من أجل البقاء، لم تضعف ولم تستكين، ولا يزال مصراً على مطالبه، مكافحاً للوصول إلى مبتغاه، و إن المحنة الكبيرة التي يعيشها الآن، بقرب التصويت على قرار التفويض من مجلس الأمن لإدخال المساعدات الإنسانية بعد أيام من السنة الجديدة، وما يحوطها من مخاطر جسيمة قد تزيد ويلاته و معاناته، بسبب بوادر تعطيل روسي لدخول هذه المساعدات، تدفعنا لندرك خطورة المقبل من تلك الأيام، و أن يكون لدينا التفنيد الصحيح، لموقف روسيا القديم الجديد، في حصار الشعب السوري و إخضاعه، ودور المجتمع المدني السوري في إنقاذ ذاته وأخذ أدواره و مكافحة عيوبه و أخطائه.
إن “الفيتو” كحق قانوني في ميثاق الأمم المتحدة، وُضعَ بالأساس لحماية مصالح الدول الكبرى، لتكون أكثر فاعلية في حماية السلم والأمن الدولي، وحماية حقوق الإنسان الأساسية، لتظهر روسيا الأكثر استفزازاً وإساءة لاستخدام لهذا الحق، خاصة في الشؤون الإنسانية.
إن حاجة الشعب السوري المنكوب في شمال غربي سورية، للمساعدات الإنسانية، أصبح أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى، في سياق التهجير والنزوح الكبير والانحشار في بقعة جغرافية ضيقة لأكثر من أربعة ملايين شخص، جلهم تحت خط الفقر، فهذه المساعدات وإن كانت لا تسد حاجة أولئك السكان، إلا أن تأمينها للمؤن الغذائية والمستلزمات الطبية بشكل أساسي، يحدث فارقاً كبيراً، من خلال رعاية 4.1 مليون مستفيد منها وفق الإحصائيات، فتوقفها أو تعثر وصولها، في ظل التدهور الكبير للواقع المعيشي، ينذر بكارثة محتومة، تتمثل بزيادة المعاناة و تعطل الخدمات وتهديد للبقاء، و إن محاولات روسيا المستفزة في تعطيل دخول تلك المساعدات عن طريق الحدود، و جعلها عبر الخطوط، يضع حياة الملايين من السورين في المناطق المحررة، رهينة بيد روسيا و النظام اللذان هم بالأصل سبب معاناة أولئك السكان.
لا شك أن النظام بعقليته الأمنية المتوحشة، سيستخدم تلك المساعدات إن تحولت من “الحدود” لتكون “عبر الحدود” كسلاح للهيمنة و الإخضاع وتصفية الخصوم، وقد أثبتت التجارب السابقة نهج هذا النظام في ذلك، سواء في الغوطة أو حلب أو حمص وباقي المناطق، وإن تحويل دور المساعدات من دورها الإسعافي الإنساني لتجاوز الظروف الاستثنائية التي يمر بها أي شعب منكوب، إلى أداة ضغط و ترهيب، يعتبر بحد ذاته جريمة ضد الإنسانية، وإن مواجهة روسيا بالطرق والحجج القانونية في الأمم المتحدة ومجلس الأمن، لا يعني يقيناً إمكانية تحقيق إيجابية في التعامل مع الملف الإنساني السوري، خاصة أن طبيعة القانون الدولي وما يفرضه من ضرورة احترام مبادئه و قواعده القانونية من الدول، يختلف عن القانون الذي يحكم سلوك الافراد.
فوسائل الجبر والإكراه لاحترام تلك القواعد معقدة للغاية على المستوى الدولي، الذي يأتي أساساً من موازنة مصالح الدولة، ورغبتها أن تبقَ ضمن العمل الجماعي، والخشية من العزلة الدولية وقطع العلاقات، وما خلفته الحرب الروسية على أوكرانيا، من إضرار بمركز روسيا في المجتمع الدولي، يعطي مبرراً واضحاً، أن روسياً ستبقى معرقلة ومصرّة على عدم التراجع والتنازل، و هذا ما يضع المجتمع المدني السوري في اختبار حقيقي لقدرته على تجاوز الأزمات والاستفادة منها، ليزيد من فعاليته و مسؤوليته، والبناء لمرحلة افضل.
فمن أهم مكتسبات الثورة السورية، اتساع الفضاء المدني، الذي يمكن للمجتمع أن يمارس فيه نشاطاته وفعالياته، حيث كان ضيقاً للغاية، في مرحلة ما قبل الثورة، وإن بيئة الصراع التي يعيشها الشعب السوري، و تقييد سلطات الأمر الواقع لنشاطاته، حتّم أن يكون هناك صعوبة على ذلك المجتمع أن يعرف أدواره بشكل دقيق، أو يبني نفسه بالطريقة الأمثل، أو تستطيع كياناته التعاضد و تنسيق الجهود بشكل يمكن البناء عليه للمرحلة المقبلة.
إن التحرر وتخفيف الاعتماد على المساعدات، من خلال مشاريع تنموية مستدامة في ظل الاستقرار النسبي للمنطقة، وبعد أكثر من عقد من الصراع أصبح أمراً لا مفر منه، و أهمية دور المجتمع المدني في هذا السياق، يأتي من اهتمام الأمم المتحدة و الاتحاد الأوربي بإعطائه هذا الدور، متجاوزة في ذلك سلطات الأمر الواقع التي لا تملك الشرعية و لا الشفافية المثالية للعمل كشريك لها، ليكون ذلك دافعاً حقيقاً لإعادة النظر في تعريف المجتمع المدني السوري، وإعادة هيكليته، وخلق آلية تعاون مشترك بين كافة كياناته وعناصره، وإضافة مصادر تمويل سورية – سورية.
إن ضعف الشرعية والتمثيل، و الارتهان للسياسة و التمويل، و التخبط في التخطيط والتنفيذ، و كثرة الفاعلين دون تنسيق و مضاعفة للجهود، وانفصالية كيانات الخارج و الداخل، لم يعد لها أدنى مبرر في هذا الظرف العصيب، ولا بد من معالجة نقاط الضعف تلك، من خلال خطوات ومبادرات تتبناها الكيانات السورية الأكثر فعالية، بإعطاء دور لكافة فئات المجتمع لمشاركتها لإعادة بناء تلك الأجسام، موحدةً في الاختصاصات والاهتمام، وربطها بغرفة عمل مشتركة، تستقطب التمويل، وترسم السياسات وتحدد الأولويات، وتوجه وتراقب دورة التنفيذ، و تلزم نفسها بمبادئ الحكم الرشيد، فيكون التماسك والتعاون الذي يعطي القوة في المطالب و نوعية المنفَّذ، و قدرة الضغط على سلطات الأمر الواقع، و التفاوض مع الداعمين و الفاعلين الدوليين، أكثر فعالية ونجاعة، لتحسين الواقع و تخفيف المعاناة،
فبكل سياق الأزمات التي يمر بها المشهد السوري، تبقى هناك الفرصة لاستعادة الدور الوطني من خلال منظمات المجتمع المدني، و قدرتها على مواجهة الضغط الروسي، وتخفيف المعاناة للشعب السوري، سواء من خلال الحشد و المناصرة ضد أي تسييس للمساعدات، أو تكثيف الجهود في الاعتماد بشكل أكبر على مصادر التمويل الوطنية.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت