شهدت الليرة السورية خلال كانون الأول/ديسمبر 2022، واحداً من أسوأ انهياراتها على الإطلاق. إذ فقدت نحو ربع قيمتها، خلال شهرٍ واحد. وهو ما يعادل مجمل خساراتها في العام 2021، بأكمله.
وفي حصيلة شبه نهاية للعام 2022، خسرت الليرة نحو 98% من قيمتها. ورغم أن العام 2022 ليس أقسى سنة على الليرة، مقارنة بالعام 2020 الذي خسرت فيها الليرة نحو 218% من قيمتها، إلا أن تزامن انهيار الليرة الأخير مع انكشافٍ غير مسبوق للاقتصاد السوري على أزماتٍ، ظهرت خلالها مؤسسات الحكومة بمظهر العاجز، يؤشر إلى أن مسار انهيار الليرة في العام الجديد، قد يصبح أكثر تسارعاً، من سابقه.
لكن، ورغم المؤشر السابق، ما تزال شريحة من المحللين تؤمن بنظرية “الانهيار المُدار” في سعر الصرف. إذ يرى هؤلاء أن المركزي السوري ما يزال قادراً على لجم انهيار الليرة، حينما يريد. وانهيارها الأخير، يحدث بضوء أخضر من المركزي، نظراً لأنه يتناسب مع مصلحته في تعزيز قيمة ما يدخره من احتياطي بالقطع الأجنبي مقابل الليرة السورية، مما يعزز من قدرته على تمويل القطاع العام، من جانب. ويتناسب مع مطالب فئة من الصناعيين ورجال الأعمال بخفض قيمة الليرة لتتماشى مع سعرها “الحقيقي”، من جانب آخر. ومنذ آذار/مارس الفائت، كانت أصوات صريحة تظهر عبر وسائل الإعلام الموالية، لتقول إن سعر صرف الليرة –الذي كان حينها نحو 4000 للدولار الواحد- يجب أن يتراوح ما بين 5 إلى 6 آلاف. وأكثر تلك الأصوات جرأة، كانت لنائب عميد كلية الاقتصاد بجامعة دمشق، الدكتور علي كنعان، الذي نقلت عنه صحيفة “الوطن” الموالية، حينها، أن التجار يسعّرون بضائعهم بدولار يساوي 10 آلاف ليرة.
واستناداً إلى ما سبق، يذهب هذا الفريق من المحللين إلى الرهان على أن سعر صرف الليرة سيتوازن، كالعادة، بعد موجة الانهيار الأخير، عند سعرٍ تفضّله الجهات التي تدير المركزي السوري. وحينما يتجاوز الدولار هذا السعر، سيتدخل المركزي باستخدام القبضة الأمنية، لإعادة لجم الانهيار، والتحكم بمداه. وتتفاوت التقديرات حول السعر التوازني القادم، مع انعدام شفافية الجهات الحكومية. إذ أن هناك من يرى أن السعر التوازني تحقق بالفعل عند نحو 7000 ليرة للدولار الواحد، وسيعمل المركزي بالأيام القليلة القادمة على لجم انهيار الليرة، لتتوازن قريباً من هذا الرقم. وما يدعم هذا الرأي، أن الدولار أخذ يعكس اتجاهه بالفعل، وسجل سعر صرف أقل من 7000 ليرة في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، مما يؤشر إلى أن الـ 7000 ليرة، هي السعر التوازني في المرحلة الحالية. فيما يذهب رأي آخر إلى أن السعر التوازني يجب أن يكون قرب الـ 10 آلاف ليرة للدولار الواحد، وهو ما يعني أن الليرة ستعاني من انهيار متواصل، مع بعض التذبذب، خلال الثلث الأول من العام الجديد.
لكن مقابل الرأي السابق، يذهب فريق آخر من المحللين إلى أن المركزي السوري بات خارج لعبة أسواق الصرف، تماماً، وأنه يفتقد للأدوات اللازمة لكبح انهيار الليرة. ويستند أصحاب هذا الرأي إلى ما يعتقدون أنه شح غير مسبوق في القطع الأجنبي، المتاح لدى المركزي، بدليل انكشاف الاقتصاد مؤخراً أمام أزمة محروقات تاريخية، أقرّ مسؤولو الحكومة بأنها نتيجة عجزهم عن توفير قطع أجنبي كفيل باستيراد المحروقات.
وهذا ما ينقلنا إلى العوامل الجديدة التي ضغطت على سعر صرف الليرة خلال العام 2022، وأبرزها، تراجع حجم الحوالات الخارجية جراء التضخم العالمي. والحوالات الخارجية، هي مصدر المركزي في تأمين نحو 40% من القطع الأجنبي الخاص بتمويل المستوردات. أما المصدر الآخر، فهو الصادرات. هذه الأخيرة، انكمشت، وفق مصادر رسمية، إلى النصف، خلال العام الجاري. خاصة تلك الموجهة للأسواق الخليجية (السعودية، الإماراتية بالذات). ولهذا الانكماش جملة أسباب، أبرزها، شحنات المخدرات التي باتت ملازمة لشحنات الصادرات السورية. إلى جانب، ارتفاع تكاليف الإنتاج المحلي، بسبب رفع حكومة النظام للدعم عن المحروقات، بشكل متسارع خلال السنة والنصف الأخيرة، بحيث فقدَ المُنتَج السوري القدرة على المنافسة مع نظرائه من منتجات دول الجوار، وتحوّلت سوريا إلى بلدٍ تُهرَّب إليه البضائع، الأرخص ثمناً، من لبنان، بعد أن كان –طوال معظم تاريخه- مَصدَرَاً لتهريب البضائع.
الأثر التراكمي لتخلي النظام، المتسارع، عن دعم المحروقات، على إنتاجية الاقتصاد السوري، والتي ظهرت جلية في مطلع النصف الثاني من العام 2022، وما نتج عنه من تراجع نوعي في كمية الصادرات السورية، مُضافاً إليه تراجع كبير في نسب الحوالات الخارجية، انعكسا بصورة تراجعٍ كبير في مدخلات المركزي السوري من القطع الأجنبي. وهو ما يجعلنا نميل للنظرية الثانية التي تقول إن المركزي بات عاجزاً عن كبح انهيار سعر صرف الليرة. ولا يبدو أن قنوات تهريب الدولار من لبنان، كفيلة بتحقيق الكبح المأمول، نظراً لإجراءات المركزي اللبناني المضادة لعمليات التهريب، والتي تستهدف جذب القطع الأجنبي للبقاء داخل السوق اللبنانية.
وهكذا يجب أن تتوافر مسارات بديلة للجم انهيار الليرة السورية في الفترة القادمة، غير تلك التي اعتاد المركزي السوري استخدامها في السنوات الأخيرة. وإلا فإن هذا الانهيار قد لا يكون قابلاً للكبح، هذه المرة. وتستند جميع هذه المسارات إلى العامل الخارجي.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت