بينما تتواصل ردّات الفعل الشعبية السورية على أي خطوة تطبيعية باتجاه نظام الأسد سواء من جانب المعارضة الرسمية أو حلفائها الإقليميين، تقوم بعض الكيانات الرسمية للمعارضة بحراك سياسي خارجي تجسّد بلقاء السيد سالم المسلط رئيس الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة بوزيرة الخارجية الفرنسية في السابع عشر من الشهر الجاري، في حين أكّد رئيس هيئة التفاوض من جهة أخرى، أنه سيلتقي عدداً من الأطراف الأوروبية في جنيف خلال الأسبوع الحالي، وربما لا أحد يعلم على وجه الدقّة بأن حراك المعارضة السورية أهوَ نشاط مواز للحركة الشعبية السورية أم موازاة لما شهدته أنقرة في الأسبوع الماضي من حراك سياسي تجسّد بزيارة وزير الخارجية الإيراني لأنقرة ولقائه بجاويش أوغلو والرئيس أردوغان معاً، ومن ثم زيارة وزير الخارجية التركي إلى واشنطن ولقائه بوزير الخارجية الأميركي، ثم ما الذي تريده المعارضة من وراء سعيها نحو الخارج وما الذي يمكن تحقيقه في هذا الظرف بالذات؟
ما لا يمكن نكرانه أن المعارضة السورية هي في أشدّ أوقاتها حرَجاً، بالطبع لا يتأتى هذا الحرج من استمرار معاناة السوريين أو من جريرة أخطاء وعثرات وقعت فيها، أو من حالة الشلل والتشظي وعدم القدرة على الفاعلية، وإنما بسبب حدثين متلاحقين، ربما أحدثا رضوضاً شخصية لدى القائمين على تلك الكيانات، لعل الحادثة الأولى تمثّلت في عدم ظهور أي موقف للمعارضة السورية حيال اللقاء الثلاثي لوزراء دفاع تركيا وروسيا ونظام الأسد في موسكو في الثامن والعشرين من كانون أول الفائت، وانكفاء جميع كيانات المعارضة عن التعبير ببنت شفة، إلى حين اجتماعهم بوزير الخارجية التركي في أنقرة، وذلك بعد مضيّ قرابة أسبوع على لقاء موسكو، وعلى الرغم مما صدر عن المعارضة على إثر لقاء أنقرة، كالكلام على التمسّك بالثوابت وعدم التفريط بحقوق السوريين، إلّا أن كثيراً من السوريين تمنّى لو أن هكذا مواقف كانت قد صدرت في حينها، تعبيراً عن الإرادة الحرة للسوريين، من دون إذن من جهات أخرى، ومهما بدت تلك المواقف صاخبة ومثيرة للغبار فإنها تبقى فاقدة للحرارة والمصداقية كما يقول كثيرون. وحين شاء رئيس الائتلاف التخفيف من الرضّة الأولى، من خلال انخراطه في مظاهرات اعزاز في الجمعة ما قبل الماضية، فقد أُبعِدَ من المظاهرات، كما أُسيء إليه من جانب البعض، الأمر الذي زاد الموقف حرجاً، فهل هذا يفسّر توجه الائتلاف وهيئة التفاوض باتجاه الخارج بعد أن باتت أبواب الداخل السوري موصدةً؟
على أية حال، وبعيداً عن التأويلات لماهية الدوافع لهذه المبادرة، فإن من الطبيعي أن يلتقي الائتلاف وبقية الأجسام الرسمية مع أطراف خارجية سواء تجسدت في لقاء دول أو قوى أو شخصيات، بل ربما يكون هذا المسعى من صلب المهام المتوجبة عليها، لكن من المهم جداً في الوقت ذاته أن يكون هذا المسعى الخارجي ضمن التوقيت المناسب أولاً، وذا مضامين وأهداف محدّدة الملامح ثانياً، وبناء عليه يمكن التساؤل: ما الذي يريده الائتلاف ومشتقاته من الأطراف الدولية سواءٌ أكانت دولاً أوروبية أو سواها؟
بالنظر إلى ما يصدر عن مسؤولي المعارضة من تصريحات وبيانات يبدو أن المطالبة بممارسة المزيد من الضغوطات على نظام الأسد من أجل إلزامه بتنفيذ القرار (2254) هي السقف الأعلى لما تريده المعارضة، ولكن اللافت للانتباه أيضاً ألّا أحد من المجتمع الدولي، بما في ذلك الدول ذات المصالح المتصارعة في سوريا، ينكر أو يتنكر لهذا المطلب، حتى نظام الأسد يقرّ بمشروعية القرار الأممي المذكور بدلالة مشاركته في لقاءات اللجنة الدستورية، بل يمكن التأكيد على أن جميع الأيادي التي أزهقت أرواح السوريين هي صاحبة الصوت الأعلى مطالبةً بتطبيق القرار الأممي المذكور، فهل بات (2254) لغزاً عصياً على التفسير، أم أنه بالفعل (حمّال أوجه) كما يقال، ويمكن لكل طرف أن يفسّره أو يوظفه وفقاً لمصالحه ومبتغاه؟ وإذا كان الأمر كذلك، ألم تكن هياكل المعارضة السورية جزءًا من الأدوات التنفيذية للدول التي استثمرت في جميع القرارات الدولية؟ لقد صدر القرار 2254 عام 2015 ، وهو يحيل إلى مرجعية قرار جنيف1 لعام 2012، وقد بدأ العمل على تشفيته وتجريده من مضمونه عبر سيرورة زمنية شارك في تفاصيلها كل من هيئة التفاوض من خلال قبولها بفكرة السلال الأربعة في لقاء جنيف الرابع (23 شباط 2017)، وكذلك من جانب وفود أستانا، إذ أبدى الطرفان موافقتهما على تجاوز البنود الإنسانية ذات الصلة بقضية المعتقلين وفك الحصار عن المدن والبلدات المحاصرة، ثم أبدى الطرفان موافقتهما أيضاً على تجاوز مرحلة إنشاء هيئة حكم انتقالي، ثم وافقوا طواعية وبطيب خاطر على الرغبة الروسية الساعية إلى اختزال القرارات الأممية جميعها بلجنة دستورية منحت نظام دمشق المزيد من القدرة على استثمار الوقت بغية إيهام المجتمع الدولي بتفاعله مع العملية السياسية، وحين أوشكت عملية استثمارها على النفاد، أُلقيت جانباً وبات العاملون في طوابيرها يتضوّرون يُتماً بانتظار مُنعشٍ جديد لهذا الكيان (الداشر).
لعله من الصحيح أن الأطراف الدولية التي دفعت باتجاه الالتفاف على القرارات الأممية إنما سعت من أجل مصالحها، ولكن ما كان ذلك ليتحقق لولا مشاركة وفود المعارضة بكل أصنافها، وبمساهمتهم، فالوفود التي انتدبتها هيئة التفاوض وكذلك وفود أستانا هم في الغالب أعضاء إما في الائتلاف أو هيئة التفاوض أو من العسكر المنضوين في هذين الكيانين، ووجه المفارقة يكمن في أن هؤلاء هم أنفسهم الآن من يرفع الصوت مطالباً بردّ الاعتبار للقرارات الأممية، في حين كانوا هم أوّل من أجهز عليها، فهل يندرج هذا المسعى استكمالاً للدور المنوط بهم سابقاً أم هو استخفاف ساذج بأفهام وعقول الآخرين؟
ربما كان صحيحاً أن معظم أشكال الحراك الشعبي التي تشهدها المدن والبلدات السورية لا تملك الأدوات الكافية ولا الأطر اللازمة لكبح مسار المعارضة التي يبدو أنها حسمت أمرها بمجافاة تطلعات السوريين والتنكر لتضحياتهم، كما ليس بمقدور هذا الحراك الثوري – إن بقي يتيماً كما عليه الحال من دون تفاعل جدّي ومؤازرة فعّالة من جانب القوى السياسية الوطنية الأخرى – أن يقف في وجه الإرادات الدولية التي تمسك بجميع مفاصل الجغرافية السورية، سواء أكانت تلك الإرادات مُمثّلةً بذاتها أو بقوى أمر واقع تنوب عنها، ولكن ما يمكن تأكيده أن هذا الحراك الشعبي – على الرغم من بؤس الظروف المحيطة بها والعوامل التي تستهدف خنقه باستمرار – هو نتاج وعيٍ أكثر عمقاً وصدقاً بفحوى القضية السورية، وكذلك أكثر صلابةً بمواجهة قوى الطغيان، وأكثر قدرةً على إحياء جذوة الثورة مهما تركم فوقها من رماد، أليس من العلامات الفارقة في الوعي أن الانتفاضة الجديدة للسوريين تبرهن على بطلان التشخيص الباهت باختزال القضية السورية بمنحاها السياسي فحسب، وتؤكد أن السياق الحقيقي لكفاح السوريين ضدّ نظام الإبادة الأسدي هو السياق الأخلاقي والحقوقي والإنساني الذي يتجاوز خدعة القرار(2254) الذي انبثق عن وصفة خاطئة لتشخيص خاطئ.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت