لم يشقّ الزلزال الذي أصاب سوريا، وهي التي لم تعهد هكذا كارثة طبيعية من قبل (بمعزل عن تمرّسها بالكوارث والزلازل السياسية طوال الخمسين سنة الفائتة)، الأرض وحسب، إلا أنه شقّ الموقف السياسي أيضاً، والذي كان موحّداً ضد التعامل المباشر مع حكومة دمشق. فالحدث جلل، والمنكوبون هم من المدنيين السوريين الذين كانوا نياماً في منازلهم في ساعة متأخرة من الليل حين تهاوت سقوف الإسمنت المسلح على رؤوسهم وعلى أجساد أطفالهم الغضة في أسرّتهم.
إنسانياً وأخلاقياً، وأمام كارثة طبيعية لا يد فيها للبشر أو للمستبدّين، من الطبيعي أن تنتهي خصومات وتمّحي أحقاد، ولو لحين، بهدف توحيد جهود القريب والغريب لنجدة المدنيين في محنتهم.
أما في الحالة السورية، فتفرض الظروف القائمة أن يتجاوز الموقف الإنساني إحداثياته العاطفية ليعرّج على السياسي، ولو باقتضاب. ومن أبرز المواقف التي انعطفت (إغاثياً) نحو التعاطي المباشر مع حكومة دمشق، هو موقف الأشقاء في المملكة العربية السعودية، وهم من الداعمين الأصيلين للثورة السورية منذ خروجها السلمي الأول. فقد أرسلت الرياض طائراتها إلى العاصمة السورية محمّلة بالمساعدات التي تستهدف السوريين القاطنين في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة، كجزء من جهود الإغاثة من الزلزال، وذلك إثر إرسالها مساعدات إلى شمال غربي البلاد الذي تسيطر عليه المعارضة عبر مطارات الجنوب التركي التي لم يؤثر الزلزال على حركة الطائرات فيها.
ولأول مرة منذ العام 2011، نشهد موقفاً سعودياً رسمياً، وعلى منبر دولي، كالذي شهدناه في مدينة ميونخ الألمانية ضمن فعاليات ’منتدى ميونخ للأمن’، حين صرّح وزير الخارجية السعودي بأن الإجماع يتنامى في العالم العربي على أن عزل سوريا لم يعد يجدي، وأن الحوار مع دمشق ضروري “في مرحلة ما” لمعالجة القضايا الإنسانية، بما في ذلك عودة اللاجئين.
وقد شهدنا فعلاً في الأسبوعين الأخيرين بشار الأسد، المنبوذ من الغرب، ينعم بفيض من التعاطف والدعم الإنساني الدولي، وبخاصة من الدول العربية التي قامت بتطبيع العلاقات معه في السنوات الأخيرة، وفي مقدّمتها الإمارات العربية المتحدة التي هدفت من التطبيع إعادة احتواء سوريا في مجالها الحيوي العربي، ما يساعد على انفكاكها عن حكومة طهران وفقاً للرؤية الإماراتية.
من الجلي أن المسألة السورية لم تعد على قائمة الأولويات للعديد من الدول العربية كما كانت عليه حتى العام 2019، وفي المقدمة دول الخليج. كما لم يعد الوضع الأمني في سوريا يشكّل مصدراً للقلق بعد انحسار خطر الجماعات المتطرفة المسلحة والتنظيمات الإرهابية إثر هزيمة داعش في العام 2019، والتي شكّلت هاجساً مؤرّقاً لدول المنطقة من إمكانية انتشارها، فكراً وتنظيماً، في أراضيها.
أما النفوذ الإيراني وهو الخطر الأكبر المهدد للاستقرار، ويعتبر التصدي له من استراتيجيات الأمن القومي الخليجي عامة، والسعودي بشكل خاص، فمن الواضح أن تل أبيب تقوم بإنجاز مهمة تقليم أظافر طهران على أكمل وجه باسم كل المتضررين من البرامج التخريبية للميليشيات الإيرانية العابرة للحدود؛ وهي تقوم بشكل متواصل باصطياد قيادات في الحرس الثوري ودك مراكزه العسكرية في سوريا أينما وجدت.
كما أن التدخل الروسي المباشر والعسكري في سوريا لدعم النظام، قابله من الجهة العربية رفع الدعم العسكري بشكل نهائي عن المعارضة السورية المسلحة، وانبثقت نتيجة لذلك، وبشكل تدريجي، مواقف متناقضة من دعم المعارضة السياسية السورية، حتى انكفأ مجالها الحيوي في النهاية وتراجع لينحصر في مكان وجودها الفيزيائي في إسطنبول التركية.
من نافلة القول إن المملكة العربية السعودية لا تريد أن ترى سوريا مجزأة، لأنه في حال تقسيم سوريا سينعكس الحدث بسلبياته وتداعياته على دول عربية تخشى من انتقال العدوى إليها. وفي الوقت عينه، تتوقع المملكة إصلاحاً سياسياً متكاملاً يحقق أهداف ما خرج من أجله السوريون ودعمته الرياض بقوة، وهو حق طبيعي في الحرية والكرامة والعدالة. كما أن انفكاك دمشق عن حلفها الشيطاني المخلخل للاستقرار هو شرط رئيس للمملكة قبل أي تطبيع اقتصادي أو سياسي مع دمشق، وهي على كل حال لا تستعجل هذه العملية كما كان الأمر في دولة الإمارات ومملكة البحرين.
كما أنه من المهم بمكان الإشارة أن العقوبات الأميركية على النظام السوري ما انفكّت تشكل حاجزاً منيعاً أمام استئناف أية علاقات اقتصادية يمكن أن تكون دول الخليج طرفاً فيها. ورغم أن الرياض تلتزم بشكل كامل بلائحة تلك العقوبات لتجنّب الإضرار بمصالحها الاقتصادية من جهة، ولأنها ترتبط مع واشنطن بتنسيق استراتيجي وحلف تاريخي بعيد المدى والمقاصد حتى لو شاءت الظروف أن تشوب السياسات بعض الشوائب في العلاقة بين العاصمتين، إلا أن الرياض تشكك في قدرة هذه العقوبات على إجبار الأسد على الرضوخ وتحقيق التغيير السياسي المطلوب سورياً وعربياً ودولياً. كما أن غياب رؤية أميركية واضحة وبرنامج متكامل لإيجاد حلول موضوعية وممكنة التحقيق للقضية السورية العادلة، هو أحد العيوب في الإدارة الأميركية التي تراقبها الرياض بقلق، والتي لم تتمكن الإدارات المتعاقبة من تجاوزها خلال 13 عاماً من المسألة السورية.
فصل المقال قد يكمن في تصريح وزير الخارجية السعودية المذكور آنفاً، والذي قد يكون انعكاساً لمرحلة جديدة من سياسة الخطوة بخطوة التي تنتهجها المملكة بتأنٍ في التعامل مع نظام دمشق.
ورغم الإشارة (الخاطئة) التي أرسلتها واشنطن برفع جزئي للعقوبات إثر الزلزال، فإن المملكة – ولو تسارعت قاطرة التطبيع العربية مع الأسد – فلن تكون إلا آخر من يضطر إلى مصافحة الأسد ومدّ السجاد البنفسجي له.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت