تعيش خزينة مصرف سورية المركزي، أياماً “بيضاء” في الوقت الراهن، تُذكّر بتلك التي كانت قبل نحو سبع سنوات. فها هي قناة “دولار الحوالات” تتوجه بصورة أكبر نحو السوق “الرسمية”، وفق تصريحات رسمية. لكن ذلك لم ينعكس مطلقاً على معيشة السوريين، لأن الأولوية لدى المركزي الآن، هي ترميم خزينته من القطع الأجنبي.
في منتصف شهر كانون الأول/ديسمبر من العام الفائت، كان الوضع مختلفاً تماماً. فالحديث عن إفلاس المركزي بات على لسان الناس، وكأنه أمر واقع، بالتزامن مع انهيار غير مسبوق في الخدمات وفي سعر صرف الليرة السورية، وأزمة محروقات تاريخية.
يومها تم تداول الشائعات عن إفلاس المركزي على نطاق واسع. ورغم أن مصدر هذه الشائعات التي نُسبت إلى تقرير لوكالة “أسوشيتد برس”، لم يكن دقيقاً، إلا أن رد المركزي المتوتر، جاء ليدعم الشائعة. إذ قال إنه يملك سيولة كافية لسنين ليس فقط لشهور، في معرض تأكيده لقدرته على تغطية رواتب العاملين بالدولة، متحدثاً عن مخزون كافٍ من القطع الأجنبي. الإشارة إلى سيولة كافية “لسنين”، أوحت بأن المركزي يتحدث عن طباعة العملة السورية التي تغطي الرواتب. كما أن بيان المركزي لم يوضح لماذا عجز عن توفير قطع أجنبي لشراء محروقات، ولماذا عجز عن منع انهيار الليرة إلى أدنى مستوياتها، في ذلك التاريخ، ولماذا تختفي السلع من الأسواق، وسط عجز عن تمويل المستوردات؟!
والأهم من كل ما سبق، لم يكشف المركزي النقاب عن حجم مخزونه من القطع الأجنبي. وسياسة الغموض التي يتبناها المركزي تعود للعام 2011، حينما تم الإفصاح لآخر مرة، رسمياً، عن احتياطي بنحو 18 مليار دولار. ومنذ ذلك التاريخ، امتنع المركزي عن الإدلاء بأي معطيات بهذا الخصوص. وفي العام 2016، قال البنك الدولي، وفق مصادره، إن احتياطي المركزي السوري استُنزف جراء تمويل آلة حرب النظام، إلى نحو 700 مليون دولار فقط. يومها نفى المركزي بشدة، دقة هذه المعلومة، وأكد أن هناك قطيعة بينه وبين البنك الدولي، وأنه لا يزود البنك بأي معلومات.
وفي صيف العام الفائت، أشار مجلس الذهب العالمي، إلى أن المصرف المركزي ما يزال يحتفظ باحتياطه من الذهب، المقدّر بـ 25.82 طناً. وهو رقم مستقر منذ العام 2000، وفق بيانات المجلس ذاته. مما يؤكد أن المركزي السوري، لم يلمس الاحتياطي الذهبي.
لكن لاحتياطي الدولار وضعاً مختلفاً. لذلك قلب المركزي سياسته تماماً. وفي مطلع شهر شباط/فبراير الفائت، رفع السعر الرسمي لـ “دولار الحوالات”، بنحو 40%، ليصبح متغيراً، وبسعر قريب للغاية من سعر السوق السوداء. وجاء الزلزال بعد أيام، والإعفاء الأمريكي من العقوبات، الذي تلاه، ليوفّر فرصة لزيادة حجم الحوالات المالية بصورة كبيرة. وقياساً بمواسم رمضان، التي يرتفع فيها حجم الحوالات اليومي، إلى نحو 10 ملايين دولار، وفق تقديرات اقتصاديين موالين، فإن من المتوقع أن يكون هناك نحو 300 مليون دولار، على الأقل، قد دخلت كحوالات للبلاد –حتى الآن-، جزء كبير منها دخل عبر القنوات الرسمية، المقرّبة من المركزي.
انقلاب سياسة المركزي ذاك، جاء استعادةً لسياسة الحاكم الأسبق للمؤسسة، أديب ميالة، الذي كان يفاخر بدخول 7 ملايين دولار، يومياً، إلى خزينة المركزي، في عهده، من قناة الحوالات. وهو ما يدعم نظرية أن المركزي كان على وشك الإفلاس بالفعل، في نهاية العام الفائت، إذ أنه، ومنذ خمس سنوات، تخلى عن “دولار الحوالات” لصالح السوق غير الرسمية، التي يقودها متنفذون عبر مكاتب وشركات صرافة، حيّدت المركزي تماماً عن حجم سيولة يتراوح سنوياً، بين 1.2 و2.4 مليار دولار. وكان المركزي يحدد “دولار حوالات” بنسبة أقل ما بين الثلث إلى النصف، مقارنة بدولار السوق السوداء، وكأنه كان يدفع الناس دفعاً للذهاب إلى السوق السوداء.
والآن يعمل المركزي على تفعيل نظام “سويفت” العالمي للحوالات المالية، مستفيداً من استثناءات العقوبات الأمريكية، مما يعني أن خزينته استعادت أبرز مصادر القطع الأجنبي التي كانت تغذيها. إذ مع تراجع حجم الصادرات إلى أقل من النصف في العام 2022، وتعليق المركزي لقرار إعادة قطع التصدير للتجار، لاستعادة سيولة البضائع في الأسواق، يجعل المصدر الرئيس لدولاراته الآن من حوالات السوريين، التي من المتوقع أن تصل إلى أكثر من مليار دولار، خلال الأشهر الستة التي سيستمر خلالها الإعفاء الأمريكي.
أما في الأسواق، فالمشهد معكوس. ففيما يقرّ مسؤول بالمركزي باستعادة جانب مهم من الحوالات، تقفز الأسعار بنحو 30% منذ الزلزال، وسط أنباء عن أن المركزي يمنح الدولار للمستوردين بأسعار تقارب أو حتى تفوق السوق السوداء، وهو ما ينعكس على الأسعار. وأزمة البصل، مثال حيّ، على رغبة المركزي في إدخار الدولارات في خزينته، بدلاً من تمويل المستوردات بها، للتخفيف من شح سيولة السلع وارتفاع أسعارها. وهو ما دفع خبيراً اقتصادياً، وعبر موقع موالٍ، لاتهام المركزي بالاحتفاظ بكل الدولارات التي وصلته بسبب الزلزال، على حساب لقمة عيش السوريين.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت