مما لا شك فيه أن الاتفاق السعودي الإيراني برعاية الصين، شكل قفزة نوعية وغير مسبوقة في تطور التحالفات والمواجهات في المنطقة، لجهة كسر حالة التوتر والجمود السياسي والمواجهة الأمنية والسياسية، بين الطرفين المتواجهين سابقاً. حيث انقلبت المواقع والأدوار من الخصومة الشديدة على حافة المواجهة العسكرية، إلى وضعية طرفين يسعيان إلى التقارب والصداقة و”التفاهم”. وكل ذلك نتيجة تبدل في الموقف السعودي، في خطوة جديدة وغير تقليدية، تناقض كل المنهج السابق الذي عرف عنها في العهود الماضية، حيث خرجت فيه عن كل القواعد والخطوات التقليدية التي كانت متبعة ومعروفة عنها في العقود الماضية.
هذا التبدل أو الانقلاب في الأسلوب، لم يظهر فقط في السياسة الخارجية والإقليمية، بل إنه يترافق مع انقلاب وتبدل آخر في السياسة والمقاربة الداخلية على أكثر من مستوى، وليس آخرها ظواهر الانفتاح على المهرجانات الفنية والطربية، وقيادة النساء للسيارات، وتبدلات أخرى على المستوى الاجتماعي والتوجه والمنهج الاقتصادي.
الظاهر والملاحظ أن هذه الاتفاقية في بكين التي أشاعت وتشيع معطيات تدعو إلى الاستقرار وإبعاد التوتر وإحلال التقارب، يتم التعاطي معها إيرانياً بشكل لافت ومنظور، حيث استغلتها إيران وانطلقت منها لتزيد من حراكها وتثبيت وجودها ونفوذها على وجه الخصوص في لبنان وسوريا.
إذ ظهر حتى الآن أن الحراك الإيراني يميل إلى تدعيم وتفعيل مواقع جديدة وبسرعة، للاستفادة من فرصة المناخ الجديد، لكسب وتكديس أوراق ونقاط إضافية يعتبر أنها تصب في مصلحته، وإلى جانب تعظيم نفوذه. وقد ظهر ذلك في سرعة التحرك باتجاه لبنان وسوريا.
الخطوة الأولى سرعان ما ظهرت في لبنان، وتمثلت بزيارة وزير خارجية إيران، حسين أمير عبد اللهيان، إلى لبنان، وجولته على المسؤولين، وتكرار عرضه واستعراضه على لبنان المساعدة الاقتصادية، إضافة إلى تكبير وتوسيع مروحة استقبالاته واجتماعاته المتعددة، وخصوصاً زيارته اللافتة إلى الجنوب، وتحديداً إلى الحدود مع إسرائيل، وعلى الأخص إطلالته على إسرائيل من حديقة مارون الراس، المسماة حديقة إيران. واستطلاع المستوطنات والبلدات الإسرائيلية مقابل الحدود الجنوبية، مما شكل إشارة سياسية وأمنية واضحة وجلية لإسرائيل والولايات المتحدة الأميركية، تقول إن إيران تقف على حدودكم وعلى مرمى حجر منكم. وباستطاعتها من هذا المكان أن تتصرف كما تريد، وساعة تريد. فهي موجودة هنا سلماً، وإذا دعت الحاجة حرباً، عبر حزب الله الممثل لها والناطق باسمها.
الخطوة الإيرانية الثانية التي سجلتها طهران في استثمار مد وتثبيت نفوذها بعد اتفاق بكين، تمثلت في زيارة الرئيس الإيراني ابراهيم رئيسي إلى سوريا، والتي استغرقت يومين وسط حفاوة ظاهرة ومنفوخة، تخللها استقبال واحتفال شعبي “عفوي “! حسب تعبير الإعلام الإيراني -السوري في مقام السيدة زينب.
الرئيس الإيراني لم يخف مقاصده وأهدافه، بل صرح قائلاً بأنه جاء للاحتفال بالانتصار على المؤامرة ولدعم حليفه بشار الأسد، الذي صمد وانتصر على المجرمين والإرهابيين الأعداء، أصحاب المؤامرة عليه وعلى سوريا وإيران والمنطقة.
ومن دون أن ننسى توقيع الاتفاقيات الاقتصادية والتعاونية العميقة بين البلدين الحليفين، حيث وُقعت مذكرة تفاهم للتعاون الاستراتيجي الشامل طويل الأمد.
الخطوة الإيرانية الثالثة على مسار الاستثمار والتدعيم للمواقع وإثبات الوجود، تمثلت في المناورة العسكرية بالرصاص الحي والأسلحة المتطورة، وأغلب أنواع الأسلحة الثقيلة لوحدات فرق النخبة العسكرية لحزب الله في لبنان، لمناسبة الذكرى 23 للتحرير، وذلك بعد ساعات من انتهاء القمة العربية في جدة، التي احتفت بعودة الرئيس السوري بشار الأسد إلى صفوفها، بعد استبعاد لأكثر من 12 سنة، وقبل أن تتلاشى أصوات الهتافات الترحيبية بالضيف الإيراني في دمشق.
لم تهدر إيران الوقت، بل انطلقت وبسرعة لكسب وتثبيت نتائج الاتفاق مع العربية السعودية، لتأكيد حقها بالتواجد على الحدود مع إسرائيل سياسياً وأمنياً وإعلامياً، عبر زيارة بيروت ومن ثم مارون الراس وبعدها وبسرعة إلى دمشق عبر إبراهيم رئيسي، ومن ثم عبر إطلاق المناورة العسكرية في بلدة عرمتى. وكل ذلك على أصداء تهديدات أحد مسؤولي حزب الله لإسرائيل بالصواريخ الدقيقة والفعالة، والتي عاد وأكد على أهميتها في هذا التوقيت السيد حسن نصرالله، وعدّها من علامات قوة وتقدم محور المقاومة.
في مجال الحسابات الباردة انتشرت وسيطرت على المنطقة أجواء المودة الإيجابية بين إيران والعربية السعودية، مقابل تسجيل خجول وشكلي لبدايات تراجع التوتر في اليمن، مع تثبيت لوجود إيران في سوريا عبر الاتفاقيات الاستراتيجية طويلة المدى التي وقعت، فيما تقدم وجود حليف ايران الرئيس السوري في الجامعة العربية، مقابل اندفاع لحزب الله إلى إجراء مناورات عسكرية علنية أمام عدسات الكاميرات والتلفزة العالمية، باعتباره جيشاً كامل العدة والجهوزية، فيما الجيش اللبناني الرسمي ينتظر مع عناصره وضباطه قبض مساعدة المئة دولار بالشهر من المحسنين الكرام.
باختصار، إيران تقول من دون أن تعلن، نرحب بالاتفاق مع العربية السعودية التي تنتهج سياسة خارجية جديدة، لكن مواقعنا وثوابتنا راسخة وثابتة، ولن نتخلى عنها ونتمسك بها بالحديد والنار، ولبنان وسوريا باقيان لنا ولكم.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت