تاريخيًّا، لم يكن حافظ الأسد، من الزعماء الذين يحظَوْنَ بشعبية لدى الفلسطينيين، إنْ لم نقل إنه، ونظامه، كان مكروهًا، لدى غالبية الفلسطينيين، فلم يكن له، شعبيًّا، شيءٌ من تأييد الزعيم المصري جمال عبد الناصر، وكانت القلة القليلة التي تصطف مع الأسد، من الفلسطينيين أقرب إلى التهميش، أو النبذ.
ولم يكن هذا بلا أسباب، فله خلفيَّات وطنية، أو دينية، فوطنيًّا، كان لدى الفلسطينيين ثأر معه، لصورته الفظيعة المتآمرة، كما تتجلّى، مثلًا، في مذبحة تلّ الزعتر، 1976، التي ارتكبتها الكتائب اللبنانية، تحت غطاء جيش حليفها حافظ الأسد. وأنصار ياسر عرفات، وهم من الناحية العددية أغلبية، (إذا قيسوا بفصائل أخرى انحازت لنظام الأسد)، لم يكونوا على وفاق مع الأسد.
أما دينيَّا، فقد كان لطائفية النظام السياسية التي كان (ولا يزال) ينهجها النظام الأسدي، أثرٌ سلبي، في توجيه مواقف الميَّالين إلى التأثُّرات الدينية، وكذا سلوكه الدموي تجاه المحاولات الدينية، كما في مجزرة حماة، 1982.
وحتى حركة حماس، وهي الحركة التي تتداخل فيها تلك العوامل؛ دينية ووطنية، وهي التي لا تقطع مع البراغماتية في مواقفها، اختارت، بدايات الثورة في سوريا، 2011، في تيَّارها العام، التموضع على مسافة أقرب إلى الشعب السوري وثورته، وهذه مواقف موثَّقة؛ بالصوت والصورة، من قيادات حمساوية متنوِّعة. وكان في ذلك التموضع اقتراب من الحسِّ العام للأمة، التي تعاطفت مع ثورات الربيع العربي عمومًا، ضد طغاة العرب. ولم يكن انتماء حماس الإخواني، كإطار عام، عديم الأثر في صنع هذا التوجُّه.
وحتى اللحظة الراهنة، وبعد أن قررت قيادات الحركة التبرُّؤ من موقفها السابق، أو الارتداد عنه؛ إلى تأييد الأسد، وإبداء الندم، لم يُحدِث ذلك تحوُّلًا آليًّا حاسمًا لدى قواعد الحركة، وأنصارها، وأبنائها؛ إذ الأسباب العميقة لمَّا تزل.
ومع مسايرة قسم من تلك القواعد الموقف الرسمي للحركة، أو سكوتهم عن إبداء مواقف علنية مخالفة، (مع وجود عدد، وحتى في مستويات قيادية عليا، كخالد مشعل، (رئيس المكتب السياسي، للحركة، منذ عام 1996، وحتى شهر أيار 2017، لا يظهرون تواؤمًا مع هذا التحوُّل)، إلا أنهم ينحَوْنَ منحى تبريريًّا، أو تأويليًّا، من قبيل الضرورة السياسية، وهذه غير مقبولة، بالطبع، لكن كما اعتاد قادة الحركة الدفاع عن موقفهم القريب من إيران بانتفاء بديل عربي، ولكون الأسد منضويًا تحت العباءة الإيرانية، فيما يسمَّى بحلف الممانعة والمقاومة…
على أن الشعب الفلسطيني أكبر من أن يُفهَم موقفُه، من خلال مواقف فصائل تنتمي إليه، كحركتي فتح، وحماس، أو الفصائل المصنَّفة يسارية، أو رافضة، ويمكن الإفادة من استطلاع رأيٍ أنجزه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بالدوحة، شهر سبتمبر/ أيلول، عام 2012، وخلص إلى أن أغلبية اللبنانيين والفلسطينيين يرون حلَّ الأزمة السورية في تغيير نظام الرئيس بشار الأسد. وقد جاءت هذه النتيجة ضمن “استطلاع المؤشّر العربي لعام 2012”، وأظهر الاستطلاع أن الرأي العام الفلسطيني مساند للثورة السورية، إذ أيَّد 81% من الفلسطينيين تنحِّي بشار الأسد عن السلطة، ورأى 75% من الرأي العام الفلسطيني أن الحلَّ الأمثل للأزمة السورية يكمن في تغيير نظام الحكم الحالي. في حين لم تتجاوز نسبة الذين أفادوا بأن الحلَّ الأمثل للأزمة السورية هو في القضاء على الثورة 1.1%.
هذا الاستطلاع الذي تزامن والمرحلة الأولى لثورة السوريين، يعانق اللحظة الأكثر أهمية، حين فاجأت الثورات الوعي العربي الشعبي، والفلسطيني، واختبرت بداهة ردِّه قبل أن تتجاذبه التشويهاتُ والتضليلات. وكان الحكم بسيطًا مع ثورة الشعب ضد النظام الحاكم. وبنسبة عالية دالَّة. مقابل نسبة ضئيلة جدًّا مع النظام ضد الثورة.
لكن الغالبية لا تستمر، عادة، في تظهير موقفها، وإن كنَّا شهدنا في فلسطين، وفي غير موقع، تعبيراتٍ شعبية، في وقفات جماهيرية، مساندة للشعب السوري، مستنكرة جرائم النظام بحقِّه، أما المؤيِّدون للأسد؛ من جماعات، أو فصائل قبلت العيش في كنفه، فبينهم من يعلن مواقف استفزازية تتبجَّح في تأييد الأسد، في تعبير عن أزمة؛ أزمة الأفول، ربما، وإن لم تكن مجرَّد الخلفية اليسارية سببًا للاصطفاف الأعمى؛ بحجج متداعية عن وقوف النظام ضد الأميركان، أو ضد الصهيونية، وهو الذي فرَّط في سيادة سوريا، لصالح روسيا، وإيران، أو بحجة الحفاظ على سوريا البلد، وهو الذي كان أكبر من عرّضها للتقسيم، بسوء تعاطيه الانتحاري مع مطالب محقَّة، وعادلة.
ثم إن الشعوب العربية متقاربة من حيث التاريخ ومن حيث المكوِّنات، ولا سيما في بلاد الشام، وربما كانت القرابة بين سوريا وفلسطين أكبر، فيما يبدو لنا من الملاحظة والمعايشة، ولذلك لاحظنا اختلافًا، وفق الاستطلاع السابق، في تأييد الأسد بمقارنة الشعب الفلسطيني باللبناني، أما في لبنان فقد أظهر الاستطلاع نوعًا من “الانقسام” في موقف الرأي العام اللبناني من الأزمة السورية، إذ أيّد 44% من المستجوَبين تنحِّي بشار الأسد عن السلطة، مقابل معارضة 46% لذلك. وذلك بحسب التباينات الطائفية في لبنان.
والشعب الفلسطيني الذي قاسى الظلم والمجازر الوحشية، وتجربة التهجير يرجِّح أن يكون أكثر قابلية للإحساس بإخوانه السوريين، فـ “إنَّ المصائب يجمعْنَ المُصابينا”.
فوق أنه، في المجمل، لم يخضع الفلسطينيون، أو يُدجَّنوا، (وعلى نحو أوضح داخل فلسطين)؛ كون عدوّهم خارجيًّا، بيِّنَ العداوة، فلم تجرِ عليهم ممارساتُ النُّظُم العربية بالقهر الداخلي الذي هو أشدُّ تشويهًا من ظلمٍ يقع من عدوٍّ خارجي غريب؛ يتوحَّد الكلُّ ضدَّه، ويتغذى به الحسُّ الوطني الجامع، والحيوي النضالي.
وقد يثور سؤال عن أداء المعارضة السورية، ولكن السؤال ليس في موضعه؛ فمهما كان حالها، فإنه لا يحيل بشار الأسد وسلطته إلى سلطة جديرة بالبقاء، فضلًا عن أن تستحق الدعم والمساندة. وهذا الموقف الرافض لنظام قمعي بوليسي معيق للتقدم الحقيقي، هو ذاته من أيِّ نظام عربي يشترك معه في هذه الصفات.
على أن النظام الحاكم في دمشق لم يستثنِ الفلسطينيين من عدوانه، وظلمه، فكم عدد الفلسطينيين الذين لا يزالون في سجون الأسد؟ وماذا فعل في مخيم اليرموك؟ وكم عدد الذين قتلهم هذا النظام الإجرامي؟ (كما، مثلًا، لا حصرًا، ضحايا مجزرة حي التضامن (عام 2013) البالغة الفظاعة). هذا إن صحّ أن ننتظر ظلمًا يقع علينا، تعيينًا، حتى نقف ضد الظالم؟ لأن معناه، أنْ لا نقف ضد من يظلم غيرنا، أو نكون محايدين تجاهه.
نقول هذا، تأكيدًا؛ كي لا يصادر أحدٌ رأيَ شعب بأكمله، برفع الصوت، فوق الصوت الأعمق، والأوسع نطاقًا، والأقرب إلى طبيعة الشعوب الأقرب إلى البساطة، الفطرية، والأبعد عن الانتهازية النفعية.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت