التجارب الشبابية السورية..دروس من مأساة الزلزال وعبر للمستقبل
أدى الزلزال المدمر الذي ضرب الجنوب التركي والشمال السوري، إلى مأساة إنسانية هي الأكبر في تركيا منذ عقدين من الزمن، ولزيادة حجم مأساة مستمرة في سورية، إذ تركّز نطاق الضرر على المناطق الجنوبية التركية ذات الكثافة السكانية العالية من حيث انتشار اللاجئين السوريين، وشمال غرب سورية الذي يعيش حالة مأساوبة أساساً منذ نحو عقد من الزمن، نتيجة تعرضه لهجماتٍ عسكرية متتالية من النظام وحلفاءه.
دفع هول الكارثة المئات من الشبان السوريين، وعشرات المبادرات الشبابية والطلابية، للاستجابة العاجلة وإطلاق عشرات الحملات الإغاثية وذلك بطابع التجربة الجيدة على مدار الـ 12 عاماً خلال الثورة السورية، وما خلفته من قدرة التعامل مع هذا النوع من الكوارث الإنسانية.
ورغم واقعية الخبرة التي ولّدتها الثورة في بناء كوادر شبابية لديها حس عالي ومميز في الاستجابة للكوارث، إلّا أنّه من المهم عدم إغفال قيم ولدت بفعل أنسنة المجتمع السوري بما حملته تلك الفئة خلال صراعها مع سلطة مستبدة.
الشباب السوري وثنائية المجتمع والسياسة:
الحقيقة، إن التجارب التي انبثقت عن المعاناة وتطورت لاحقاً لتتحول إلى مؤسسات فاعلة، لم تكسب فقط ثقة الحاضنة الشعبية، وإنما كان لديها القدرة على تحقيق ثنائية المجتمع والسياسةـ إذ عوضت غياب فواعل من المفترض أن تكون مسؤولة عن ملف القضية السورية، وبل راحت عوضاً عنها لتكسب ثقة دول كبيرة مثل الولايات المتحدة الأمريكية كحالة الدفاع المدني السوري في لقاء الخارجية الأمريكية الأخير أثناء كارثة الزلزال، الذي عُقد في 19 شباط/ فبرير، 2023 جنوب تركيا.
فالدفاع المدني، الذي كان من الأساس طرفاً مركزياً في المعادلة السورية لدى تقييم المواقف السياسية ومع الزلزال، ارتفع رصيده بشكل أكبر.
كذلك، الفرق الشبابية الطلابية والمبادرات التطوعية المختلفة داخل سورية وفي دول اللجوء، بذات أهمية ما قام به الدفاع المدني، إضافة لعشرات الفعاليات والحملات من فرقٍ مثل “ملهم التطوعي”، و”اتحاد طلبة سوريا” الذي نفذ حملاتٍ عديدة منها تلك الخاصة بالترجمة ومراكز الإيواء، ومحاولات تأمين الأقساط الجامعية للطلبة المتضررين، أو الأفراد من الشباب الذي ذهبوا بعدد كبير نحو جنوب وشمال تركيا لأجل مساعدة الضحايا، والالتحاق بالمبادرات.
إنّ نماذج الفرق الشبابية، لم تكن تعبيراً عن وضعٍ سوريٍ داخليٍ فحسب وإنما حملت معانٍ بأبعاد استراتيجية تجاوزت حدود الدول ثقافةً ونموذجاً، وقد يكون ليس مستغرباً الاعتقاد أن ما حدث من استجابةٍ سوريةٍ في تركيا من قبل شبان سوريين رغم كل معناتهم الذاتية سيما تلك المرتبطة بأحوالهم الاقتصادية والاجتماعية تركت أثراً يتجاوز اللحظة وله مؤشرات أكثر، مرتبطة بكيف يمكن أن يكون حال السوريين في المستقبل عندما تتاح فرصة الديمقراطية والاستقرار. وعند محاولة تفسير تلك الدوافع من المهم، لحظ الأسباب الكامنة وراء الاندفاع السوري الذي من الأصل قد يمكن إرجاعه لثقافة وطبيعة المجتمع؛ أي ليست وليدة الحدث أو صيرورة العقد الماضي فحسب، وإنما هو عنصر ثابت في الهوية، وزادته الكارثة حركية، فعندما تفقد الشعوب مؤسسات تدافع عنها وتحميها ترنو للفطرة البشرية التي تقوم على الحمية والأخلاق والروابط الأسرية-الاجتماعية كما في حالة تركيبة المجتمع السوري، الذي يغلب عليه العصبويات كسلسلة اجتماعية يبرزها التكاتف كأداة للتعبير عن إيجابيات تلك الالتفافات الضيقة.
بطبيعة الحال، إنّ ارتفاع مؤشرات المأساة لدى السوريين وطريقة تفاعلهم معها وأدوات استخدامها تثير من جديد جدلية أو تساؤل ماذا قدمت الثورة السورية للفرد السوري على علّة تركيبة السؤال، ومن الواضح أنّ تفسيرات الإجابة ما زالت تتحمل الكثير من المعطيات المتجددة، طالما أنّ الإنسان السوري يصرّ -على ما يبدو- في استخدام عنصر الصبر على الدوام.
شباب سورية.. رصيد وفرص مستقبلية:
قبل كارثة الزلزال، كان اليأس يُخيم على أفئدة السوريين من الحال الذي وصلوا إليه وخذلان المجتمع الدولي لهم، لم يتغير شيء من وجهات النظر تلك لاحقاً، لكن هناك متغير جديد طرأت في المشهد وهو عودة السوريين من جديد إلى الساحة، معتمدين على أنفسهم دون الحاجة للتفكير ماذا يمكن أن يقدم لنا المجتمع الدولي أو انخفاض التوقعات منه.
مع ذلك، اللوم بقي مستمراً على الخذلان حتّى بعد الزلزال عندما تُرك السوريون وحدهم يواجهون مصيرهم للمرة الثانية أمام الكارثة الطبيعية؛ بينما الأولى كانت عندما قرر المجتمع الدولي معاقبة المجتمع السوري بتعقيداته البيروقراطية في تفسير الآلية القانونية لإنصاف السوريين تارةً والتجاهل في غالب الأحيان للمساحات الأخرى، نعم سورية لم تتحرر لكن الإنسان السوري تحرر، لذا من المهم التفكير من اللحظة الراهنة كيف يمكن تسخير واستثمار حالتنا الحرّة غير الناجزة أو المكتملة في تحرير سورية من الاستبداد وبناء مجتمع حر وليس فرداً حراً فقط على أهمية ذلك.
إنّ العبر والدروس المستفادة من مأساة الزلزال كثيرة، ولربما من المهم الإضاءة والبناء عليها لأجل محاولة تلمس مساحة الإنجاز أو الوعي التي وصل إليها السوريون، والتفكير الجدي في إيجاد آلية ولغة سليمة في تعزيز حالة التكاتف التي خلفها الزلزال والسعي لضمان استدامتها -على صعوبة الأمر- ويجدر القول إنّ التعامل مع الكوارث من منحى أكثر استراتيجية من خلال التحضير والاستعداد للكوارث عبر تمكين وتدعيم بنى الشبكات الشبابية الفاعلة وتخصيص برامج خاصة بالاستجابات الطارئة قد يكون أمراً هاماً يجب النظر والتفكير فيه بجدية.
كما أن الشباب مُناط بمسؤوليات التنظيم والحوكمة والتوجيه الدقيق، تحمل المؤسسات العامة في منظمات المجتمع المدني مسؤوليات أكبر ربما على رأسها دعم وتمكين الشباب وتوفير الفرص لهم وخلق آليات عمل وتعاون مع المبادرات الشبابية الناشئة، عبر دعمها بكل الأدوات والسبل كما يحدث في مناسبات ونماذج عديدة رغم أنّها ما زالت غير كافية، ولعلّ إنشاء صندوق وطني شبابي لتمويل الحملات الشبابية قد يترك أثراً مهماً في تحسين وتطوير تلك المبادرات وغيرها. هذا النوع من التوجه قد يوفر الغطاء للعمل الجماعي ويقلل من النزعات الفردية في المبادرات اللاحقة، خاصةً مع بروز بعض نقاط الضعف في هذه الجزئية خلال الفترة الماضية لدى بعض الشبكات الشبابية.
أخيراً، إنّ الزلزال أعاد تذكير المجتمع السوري بشبابه وإمكانياتهم وقدرتهم على التأقلم أو التعامل مع الطوارئ، فضلاً عن استعدادهم لتحمل أعباء كبيرة فاقمت قدراتهم الطبيعية، والأهم من ذلك نبه لمدى قربهم من مجتمعاتهم المحلية وكسب ثقتهم باستمرار، على عكس الفئات التقليدية التي ما زالت تهدر فرص إثبات نفسها بسبب أدواتها البدائية أو المكررة في التعامل مع الأحداث.
إن ما حدث يدلل لحجم الفرص التي نملكها سواء بالكوادر البشرية أو بالمنظمات والنقابات الشبابية الوليدة التي وضعت لها بصمة كبيرة خلال تلك الكارثة وكسبت احترام حتّى المجتمعات المضيفة خاصة في تركيا عقب توجه مئات من السوريين أفراد ومجموعات وكيانات شبابية نحو أماكن الزلزال لمساعدة المنكوبين.
وربما هذا ما يجب التركيز عليه في المستقبل، التفكير الجدي بتحويل الكوارث إلى فرص حقيقة فيما يصب في تعزيز إيجابيات المجتمع السوري والعمل على تطويرها والاستفادة منها مع الشباب الذي استطاع فيما يبدو تجاوز حدود الجغرافيا التي فرضتها سلطات أمر الواقع في تعقيدات الملف السوري، وبناء جسور للتواصل والعمل كما في الكثير من نماذج النقابات الشبابية والطلابية الناشطة بين دول الاتحاد الأوربي وتركيا وسورية.
الجدير بالانتباه، أنّ العمل الذي قامت به تلك الفواعل أي الشبكات الشبابية والمنظمات والأفراد “مثلث الاستجابة” أدى للخروج بنتائج مهمة، من المهم تحويلها لبرامج عمل منظمة ومضبوطة على الأقل من خلال إنشاء مجلس تنسيق بالحد الأدنى خلال الفترة الأولى وصولاً إلى بلورة عمل منظم حقيقي يكون مخرجاً وبوابة جديدة في العمل المدني السوري بهدف تنظيم الاستجابة في مراحلها القادمة خاصة ما بعد الصدمة المادية أو النفسية.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت