بعد نحو سنتين من تسريبات وغمغمات بشأن ما صارت تعرف في وسائل الإعلام بـ”صفقة القرن”، انعقد عزم إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، على الكشف عن تفاصيلها في لقاء جمعه يوم أمس (الثلاثاء) برئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، وزعيم المعارضة الإسرائيلية، بيني غانتس.
وركزت معظم التحليلات على دلالة التوقيت بالنسبة للطرفين، الأميركي والإسرائيلي، وهو أمر قد يبدو مهما نظرا إلى التحديات الداخلية التي يواجها كل من ترامب ونتنياهو، باعتبار أن الأول يواجه محاولات عزله في الكونغرس بدعاوى سوء استخدام السلطة، وعرقلة عمل الكونغرس، والثاني يواجه اتهامات بالفساد، ويطلب لتجاوزها منحه الحصانة في الكنيست. ولكن التركيز على دلالة التوقيت، أميركيا وإسرائيليا، يصرف الانتباه عن القضايا الأكثر أهمية في “الصفقة” التي يشيع استخدامها لفظًا في عالم التجارة والأعمال أكثر من عالم السياسة والدبلوماسية، فالحديث عن هذه “الصفقة” أسبق من محاكمة ترامب ومحاولات عزله، وأقدم من توجيه تهم بالفساد إلى نتنياهو، وتنفيذها على أرض الواقع بدأ فعليا منذ وصول ترامب إلى السلطة أوائل عام 2017، بإشرافٍ مباشرٍ من صهره ومستشاره، جاريد كوشنر، الذي انتزع ملف الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي من وزارة الخارجية التي طالما تحكّمت رؤيتها به، حتى في ظل أكثر الإدارات قربًا من إسرائيل.
خلال السنوات الثلاث الماضية التي أنفقها في الحكم، قام ترامب بتصفية، أو محاولة تصفية، كل ما تسمى “قضايا الحل النهائي” من دون الحاجة إلى عملية تفاوضية مع الطرف الفلسطيني. وقبل نهاية سنة حكمه الأولى، كان ترامب قد اعترف بالقدس عاصمة لدولة الاحتلال، وبمناسبة الذكرى السبعين لقيام إسرائيل (نكبة فلسطين) وقّع مرسوم نقل السفارة الأميركية إليها. وفي السنة الثانية من حكمه، أوقف ترامب المساعدات المالية التي كانت الولايات المتحدة تقدّمها لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) أداة للضغط عليها، حتى تعيد تعريف اللاجئ الفلسطيني. وتريد واشنطن التي كانت وراء إنشاء الوكالة عام 1949 لمساعدة اللاجئين الفلسطينيين الذين هجّرتهم إسرائيل من أرضهم، واستولت عليها، أن يقتصر تعريف الوكالة للاجئ على الجيل الأول للنكبة، وتجريد من ثم أبنائهم وأحفادهم من هذه الصفة، ما يعني إنهاء حق العودة لملايين اللاجئين الفلسطينيين الذي نصّ عليه قرار مجلس الأمن رقم 194. وفي إبريل/ نيسان 2019، اعترف ترامب بالسيادة الإسرائيلية على مرتفعات الجولان السورية المحتلة. وقد جاءت خطوة ترامب أخيرا في تنفيذ رؤيته لتسوية الصراع من باب شرعنة الاستيطان، ففي نوفمبر/ تشرين الثاني 2019، أعلن وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، أن الولايات المتحدة الأميركية لم تعد تعترف بالرأي القانوني القائل إنّ بناء إسرائيل “مستوطنات مدنية” في الضفة الغربية “يتعارض مع القانون الدولي”، لتكتمل بذلك القطيعة التي أعلنتها إدارة الرئيس ترامب مع السياسات التي حكمت المقاربة الأميركية الرسمية نحو الصراع العربي -الإسرائيلي، سبعين عاما.
واقع الحال أن الإعلان عن الصفقة، وقد تم تنفيذ أغلب بنودها، يهدف إلى أمرين أساسيين: أولهما، إعطاؤها طابعاً رسمياً يتضمّن بعض التعديلات، من قبيل الاتفاق على مبادلة بعض الأراضي في الضفة بأراضٍ تسيطر عليها إسرائيل من جهة قطاع غزة، والثاني، شرعنتها، عبر تأمين دعم عربي (خليجي تحديدا) لها يصبّ باتجاهين: الأول يتعلق بالضغط على الفلسطينيين للقبول بها، والثاني يتعلق بتقديم الدعم المالي المطلوب لتنفيذ الشق الاقتصادي منها، والذي جرت مناقشته في ورشة البحرين العام الماضي.
وإذا كان من أهميةٍ للتوقيت الآن فهو مرتبط بمراهنة واشنطن وتل أبيب على إمكانية تمرير الصفقة في ظل وضع فلسطيني سيئ، ووضع عربي أكثر سوءا، فالصّدع الفلسطيني تكرّس اليوم إلى درجةٍ بات معها من الصعب تخيّل رأبه. أما العرب فهم اليوم في أضعف حالاتهم منذ نشأة النظام الإقليمي العربي قبل نحو قرن، فالحواضر العربية الكبرى منهارة، أو على شفا الانهيار، ومركز الثقل بات اليوم في الخليج الذي صار يرى في إيران وسياساتها خطرا وجوديا، ومستعد في مواجهته للتعاون مع إسرائيل.
هذا الوضع هو المهم في توقيت إعلان الصفقة، والقدرة على تمريرها مرتبطة باستمرار الانقسام الفلسطيني، واحتدام الصراع العربي – الإيراني. هذا الصراع يتحمل الجزء الأكبر من المسؤولية في تصفية القضية الفلسطينية.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت