فيما تسارع الدول في ترتيب عمليات إجلاء رعاياها بالسودان، يغيب النظام السوري عن هذا المشهد تماماً، وكأن لا جالية سورية تناهز الـ 100 ألف، في ذاك البلد. فيما سفارته التي طاولتها أضرار الاشتباكات، مُغلقة، وموظفوها غير متاحين للتواصل مع “رعاياهم” المُفترَضين.
وحتى لو انجلى غبار المعارك بين الجيش السوداني وقوات “الدعم السريع”، في وقت قريب، فإنه من المرجح أن تغريبة جديدة تنتظر سوريي السودان، أو من بقي منهم، بعد “تنكيلٍ” رسمي طاولهم، وهجّر أكثر من ثُلثَيهم، خلال السنوات الثلاث الأخيرة. ومن المرجح أن تلك التغريبة ستطاول هذه المرة، تلك الشريحة الميسورة من السوريين، التي تمكنت من التكيّف والبقاء رغم متغيرات المشهد السوداني المضطربة، منذ نهاية العام 2019، وذلك بدفعٍ من ملاءتها المالية. فيما سيحث رأس المال السوري المتوطّن في السودان، خطاه، نحو وُجهة أخرى، مُثخناً بخسائر جديدة.
وتقيم الغالبية العظمى من ميسورِي السوريين، في منطقة كافوري الراقية، بشمال العاصمة الخرطوم. وهي منطقة اشتباكات ملتهبة، وقد تعرضت لقصف طيران، وتساقط قذائف، أدى إلى مقتل أربعة منهم، على الأقل. وسط مخاوف متزايدة من انتشار عمليات السطو والنهب المسلح، في ظل فلتان أمني غير مسبوق. وهي عمليات طاولت السوريين، في من طالت.
وقد وجّه السوريون في السودان، نداءات استغاثة، التقطتها وسائل إعلام معارضة، وقلّة من تلك الموالية. فيما غاب أي رد فعل “رسمي” في دمشق، حتى ساعة كتابة هذه السطور. فالنظام يعرف أن غالبية هؤلاء، فروا من جحيمه، لذا يسعده أن يراقبهم يتحرقون بنيران جحيم غيره.
وقبل أن يستعر “الجحيم السوداني” على السوريين، إلى هذا الحد، كان لهيبه قد نالهم بدرجات أقل، منذ نهاية العام 2019، بعيد الإطاحة بنظام عمر حسن البشير. يومها، طفت إلى السطح الاتهامات التي نالت السوريين بالحصول على الجنسية بطرق التفافية فاسدة. وقد تحوّلت تلك الاتهامات إلى توجّه رسمي، من جانب قائد “الجيش”، عبد الفتاح البرهان، الذي أصدر قراراً في العام 2020، قضى بسحب الجنسية من آلاف المُجنسين بعد العام 2014. وكان السوريون هم أبرز ضحايا هذا الإجراء. وبالتزامن، فُرضت تأشيرة دخول على السوريين إلى السودان، لتُغلق في وجههم آخر المحطات الخارجية المتاحة للهجرة إلى بلد ثالث، أو للبحث عن الأمان، أو حتى للقاءات لم الشمل، أو للفرار من الخدمة العسكرية في صفوف قوات الأسد.
ومنذ ذلك التاريخ، وما تلاه من تضييق “رسمي” على السوريين، تناقصت أعدادهم في السودان، من ذروة الـ 300 ألف، قبل الـ 2019، إلى أقل من 100 ألف، وفق تقديرات الأمم المتحدة، اليوم.
لكن لهيب “التضييق الرسمي” الذي طال السوريين منذ العام 2020، لم يشمل كل فئاتهم. فبقي الميسورون في حصنهم، إلى حدٍ ما. وحتى من سحبت منهم جوازات السفر السودانية، أُعيدت لهم، نظراً لاستثماراتهم. وهي استثمارات احتلت في سنوات ما قبل الـ 2019، المرتبة الثانية بين الجنسيات الأكثر استثماراً في السودان. وضخت مياهاً في مختلف قطاعات الاقتصاد السوداني، بدءاً بالمطاعم وقطاع المواد الغذائية، مروراً بصناعات الحديد والمنظفات والبياضات والبلاستيك ومواد التعليب والتغليف، وليس انتهاءً بمصانع الأثاث، والاستثمارات الزراعية الضخمة التي وصلت في إحدى سنوات العقد الفائت إلى نحو 70% من حجم الاستثمار الأجنبي في هذا القطاع.
ولا يوجد رقم دقيق يوضح حجم الاستثمارات السورية في السودان، قبل 2020. لكن أرقاماً رسمية تعود إلى تلك الحقبة، تكشف أن مستثمرين سوريين وفّروا 3 آلاف فرصة عمل للسودانيين في مجال المنسوجات. وأنشأوا نحو 80 مشروعاً في قطاعات مختلفة، بعدد مستثمرين وصل إلى نحو 3 آلاف.
في تلك الحقبة، أي قبل الـ 2020، لم يكن المشهد مثالياً تماماً، من وجهة نظر مصالح السوريين في السودان. إذ تورط بعض أثريائهم في فساد نظام البشير، واشتروا الجنسية لقاء 10 آلاف دولار كانت تدفع كتسعيرة لمتنفذين، من دون أن يحققوا شرط الإقامة لعشر سنوات. وقد تم تخفيض هذا الشرط لستة أشهر، بقرار مباشر من البشير حينها. لكن الحصول على جواز السفر السوداني، كان متاحاً، حتى من دون تحقيق شرط الإقامة القصيرة، ذاك.
ورغم أن الفساد المرتبط بملف منح الجنسية في عهد البشير، لم يكن يختص بالسوريين وحدهم، إلا أنه طاولهم بالتعميم بشكل خاص، نظراً لأن نحو ثلثي الأجانب الذين حصلوا على الجنسية، بهذه الطريقة، كانوا سوريين، بأعداد قُدّرت يومها بنحو 13 ألفاً. وانعكس ذلك سلباً على السوريين الكادحين، الفارين من بلدهم، دون ملاءة مالية، والذين كانوا يعملون بأجور زهيدة، وبظروف معيشية مضنية، على غرار أقرانهم السودانيين، مع فارق، أن “التضييق” الرسمي، بات سيفاً مسلطاً على رؤوسهم. وأدى ذلك إلى تغريبة جديدة لهذه الفئة من السوريين، هناك.
ومع دخول البلاد في نفق جديد، أكثر ظلمة بكثير مما سبق، يتسم بانفلات أمني غير معتاد، وضبابية محبطة حيال المستقبل، من المرتقب أن يشق سوريو السودان طريقهم نحو تغريبة جديدة، ستشمل الممتلئين مالياً، منهم، هذه المرة، وعلى نطاق واسع. ووجهتهم الأولى المرجحة، ستكون، مصر.